توضيح لا بد منه

بسم الله الرحمن الرحيم

توضيح لا بد منه

 

توضيح للتفريق بين أمرين، في مسألة بيع الدولار بالصكوك المصدّقة بالصورة الجارية في بلادنا، لا بدّ منه ليتحرر محلّ النزاع عند الاختلاف.
ما أرى النقاش الجاري بين المشايخ في المسألة، إلا بحاجة إلى تحرير محلِّ النزاع.
فقد توارد كلام المجوزين للمسألة، يتناقله الواحد عن الآخر، وكلامُهم من جهةِ الفقه صحيح، لكن حصلَ به ما يُعرف عند الأصوليين بالقولِ بالموجِب، تحول الجواب في المسألة عن السؤال الآتي، الذي يصور حقيقة النازلة، وهو: (هل التأخير الحاصل في تسليم الصك المصدق بعد الاتفاق، إلى اليوم الثاني، يفسد عقد الصرفِ أم لا؟) تحوّل في إجابات بعض المشايخ عن سؤال آخر: (هل الدفع بالصك المصدق في الصرف يعدّ قبضًا أم لا؟).
وشتان بين الأمرين، فالسؤال الأخير لا أحد ممّن يتابعُ ينازعُ فيه؛ لأن الدفع بالصك المصدق يُعدّ قبضًا إذا تم تسليمه بالفعل وقتَ العقدِ دون تأخير.
إذ لا فرق بين الدفع بالصك المصدق وبين النقد الورقي، فالجدال والخوض في كونِه قبضًا أو ليس بقبض، والتدليل عليه، إهدار للوقتِ؛ لأنه يَفترضُ اختلافًا حيث لا اختلاف، فمحل الاختلاف إنما هو في الصورة التي يجري تداولها في السوق الليبي على نطاق واسع، وهي أن مصارفة الدولار بالصكوك يتم الاتفاق عليها في يوم، وتسليم الصك يتم في اليوم الثاني على أقل تقدير، فهل هذا التأخير في باب الصرف يضرُّ أم لا؟ هذا هو مربط الفرس في السؤال الدائر الحائر، الذي يحتاج الناس إلى الجواب عنه؛ لأنهم ابتُلوا به.
وقلت فيه: إن تأخير تسليمِ الصكّ إلى اليوم الثاني مُضرٌّ، ويُعدّ مِن الرّبا المحرم، وذكرتُ في توجيه ذلك أنّ تأخيرَ استلام الصك عن مجلس العقدِ، يختلفُ عن تأخيرِ تحصيلِه في الحساب؛ بسبب الإجراءات المعتادة في النظام البنكي، الذي أجازتهُ المجامعُ الفقهيةُ؛ لأنّ تأخيرَ التحصيل الذي جوزوهُ يكونُ بعدَ القبضِ للصك أو إيداعِ المالِ في الحسابِ، لا قبلَه، فالتأخير إنما هو في التحصيلِ لا في القبضِ.
ثم إني أضيف لمزيد توضيح: دعنا نتركُ موضوعَ الإقباض بالصك في هذه المسألة جانبًا، ونقدرُ أنّ الاتفاق فيها حصل على الدفعِ بالعملة الورقية، لا بالصكِّ، بأن يتم الاتفاق على المصارفة، ثم يقول أحدُ الطرفينِ بعد الاتفاق للآخر: انتظرني لآتيك بالعملةِ غدًا؛ لأنّ مالي في المصرفِ، وقد تعذّرَ عليَّ السحبُ اليومَ، لتأخرِ وقتِ الدوامِ.
فهل يكون الصرف على هذا النحوِ جائزًا؟!
وإذا كان مثل هذا التأخيرِ جائزًا لا يضرّ، فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهبُ بالورقِ ربًا، إلَّا هَا وهَا).
وحتى لا نختلف في التفسيرِ، فَسّرَ لنا الخليفةُ الراشدُ عمرُ رضي الله عنه معنى قولِ النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا هَا وهَا)، تطبيقًا وعملًا، ففي الموطأ عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري: (أنّه التمسَ صرفًا بمائةِ دينار، قال: فدعانِي طلحة بن عبيد الله، فتراوضْنَا حتى اصطرف مني، وأخذَ الذهبَ يقلِّبها في يده، ثم قال: حتى يأتينِي خازني مِن الغابةِ، وعمر بن الخطابِ يسمع، فقال عمرُ: والله لا تفارقُه حتى تأخذَ منه، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهبُ بالورقِ ربًا، إلّا ها وها).
وإذا كان مثل هذا التأخير في الصرفِ لا يجوزُ والدفعُ بالعملةِ الورقيةِ، فبالصكِّ بالأوْلَى.
هذا هو السؤالُ الذي نحتاجُ إلى جوابه، أمّا افتراضُ أنّ السؤالَ الواردَ هو على غيرِ هذه الصورة، ثم الجوابُ عنه، فهو جوابٌ على شيءٍ آخرَ، غير النازلة، وعلى خلاف الواقع، فالناس إنّما سألوا عمّا ابتُلُوا به، وعجَّتْ معاملاتهم به في السوقِ، فإجابتُهم بأنّ القبض بالصك أجازته المجامع الفقهيةُ، وإغفالُ الالتفات إلى التأخير الحاصلِ في تسليم الصكّ، وتواردُ القولِ بأنّ المصارفة بالصكوك جائزةٌ، وأنّ المجامعَ الفقهيةَ أقرَّتْها، وجعلتِ الصكوكَ قبضًا؛ هو جوابٌ عن السؤال بمعزلٍ، ويجعلُه كمَن سُئلَ عن شيءٍ وأجابَ عن غيرِه، فليتأمّل.
هذا فيما يتعلق بتأخير القبض الحاصل في المصارفة بالصكِّ المصدقِ، أمّا الفسادُ الآخرُ الذي جرّه علينا تبديلُ الصكوكِ بالدولارِ، فناهيكَ بما حصلَ مِن جَرائهِ، ممّا يُعد مِن قبيلِ غسيلِ الأموالِ، وتهريبِ العملةِ الأجنبيةِ إلى الخارجِ، وذلكَ عندما تمَّ طبعُ 4 ملياراتٍ من العملة الورقيةِ في روسيا بدون رصيد، في المنطقة الشرقية، ممّا يُعدّ مِن الفسادِ في الأرضِ، فقد سُيّلتْ نسبةٌ كبيرة مِن هذه المليارات، وحُوِّلت - وهي بدونِ رصيدٍ، ولا تُساوي شيئًا - إلى عملةٍ أجنبيةٍ، يتم شراؤها بالصكوك بأسعارٍ عاليةٍ، تزيدُ على السعرِ الموجودِ في السوقِ بنسبةِ ثلاثين إلى أربعين بالمائة، وهُرِّب منها ما هُربَ، وأدَّت حينَها إلى قَفل بعضِ المصارفِ، التي كانت مصدرَ هذه الصكوكِ.
كمَا أدّت إلى أمرينِ آخرينِ، ضارّين بالعامةِ وبالبلدِ ضررًا بليغًا:
الأولُ: الغلاءُ الفاحشُ، واشتعالُ النار في الأسعارِ.
الثاني: مزيدُ استنزافٍ لِما بقي مِن مخزون العملة الأجنبيةِ، للإجهازِ على ما بقي مِن اقتصادِ البلدِ المتهالك، وقد ينتهي الاستمرار في استنزاف العملة الأجنبية بهذه الوسيلة، ومباركتها بالفتاوى مِن بعضِ لجانِ الرقابة الشرعية في المصارفِ، دونَ النظر إلى مآلات الأمور، قد ينتهي بالبلدِ إلى أن تصيرَ العملةُ المحليةُ لا شيءَ، الدولارُ الواحدُ قد يساوي ألفَ دينارٍ، على نحوِ ما مرَّتْ به العراقُ عندمَا أجهزُوا عليها.
هذا للتوضيحِ، واللهُ المستعانُ، وهو حسبي.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
25 ربيع الأول 1439 هـ
الموافق 14 ديسمبر 2017 م

التبويبات الأساسية