(آية وعبرة)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

(آية وعبرة)

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ):

 

(بِطَانَة)؛ البِطانة: أصلُها مِن البطنِ خلافُ الظهرِ، وبطانةُ الثوب وجهُه مِن الدّاخلِ، وما فوق بطانته مِن الخارجِ يسمى ظِهارة، وبِطانة الرَّجلِ مَن يُفضِي إليه بأسرارِه؛ لثقتِه به، وتطلقُ البِطانةُ على الواحدِ والجماعةِ، وتُجمعُ على بَطائِن، قال تعالى: (بَطَائِنُهَا مِن استبْرقٍ).

(مِن دُونِكُم): مِن سِواكم؛ مِن غيرِ المسلمين، أو ممّن كانَ مِن المسلمينَ على غيرِ طريقكم من الاستقامةِ والدّين.

(لَا يَألُونَكُم)؛ يألونَكُم فِعلُهُ أَلَا يَأْلُو أُٓلُوًّا، على وزنِ بَدا يَبدو بُدُوّا، مع​ناه: لا يقصّرونَ جهدهم في فسادِكم.

(خَبَالًا)؛ الخَبالُ: الاختِلالُ والفسادُ، ومنهُ المخبولُ، للّذي فسدَ عقلُه أو بدَنُه.

(ودّوا): رغِبوا وتمنَّوا.

(عَنِتّم): مِن العَنت، وهو الضررُ البالغُ والمشقةُ الشديدة.

(البغضَاءُ): العداوةُ والكراهيةُ.

(مِن أفْواهِهِم): مِن فلتاتِ لِسانِهم. 

(الآيَات): العلامَاتُ والدّلائلُ، الدالةُ على خداعِ المتظاهرين لكم بالنصحِ، والدالةُ على سوءِ نواياهُم.

 

في الآياتِ نِدَاءٌ للمؤمِنينَ، ولكلّ مَن وَلّاه اللهُ رعيّةً صغيرةً أو كبيرةً، ينهاهُم أن يتّخذُوا بطانةَ السوءِ والفسادِ حاشيةً لهم، ونصحاءَ يلِجُونَ عليهِم ويسمَعُونَ مِنهم.

يُحذرُهم أن ينخدِعُوا بمَن يتظاهَرُ بالنصحِ وباطِنُهُ الخُبث، فالنّاصحُ مستشارٌ، والمستشارُ مؤتَمَنٌ، والأمانَةُ أساسُها الاستقامَةُ والديانَةُ، والخوفُ مِن اللهِ، فمَن سهُلَ عليهِ أن يخونَ ويغشّ في أماناتِه مَع الله، كانت الخيانةُ  والغشُّ أسهلَ عليه مع مَن دونَه.

قال صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ؛ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى).

وسياقُ الآية واردٌ في تحذيرِ المؤمنين؛ أن يتخذُوا بطانةً ناصحةً مِن المُنافقينَ اليهود، ومِن غيرِ المسلمين.

لأنّهم لا يألونكم خبالا؛ لا يُقصرُون جهدَهم في الفسادِ عليكم، وفي كلّ ما تسوؤُكم عاقبتُه، ولا يتردّدُون في إشغالِكم بما يشقّ عليكم، ويذهبُ قوتَكم، حتى لا تقومَ لكم ولا للحقّ الذي أنتُم عليه قائمةٌ، فإنّهم يتمنّون لكمُ العَنَت، وأن تقعُوا فيمَا لا تقدرونَ على دفعِه، ولا علَى الخلاصِ منهُ (وَدّوا مَا عَنتّم).

وقد بانَت كراهيتُهم لكم فيما أبدتهُ البغضاءُ مِن أفواهِهم، وما ظهرَ مِن فلتاتِ لسانِهم، المعبّرة على التقليلِ مِن شأنِكم، وهوانِكم عليهم، والعداوة لكم، وإن حرصُوا أحيانًا على ألَّا يظهرَ ذلك منهم، حتّى لا ينكشفَ أمرُهم، ولا ينتهِي دورُهم.

وعليكُم أن تعلَموا؛ أنّ ما تنطوِي عليهِ صدورُهم، وما تخفيهِ قلوبُهم مِن البغضاءِ والعداوة  لكم، وللحق الذي أنتم عليه، أكبرُ ممّا يظهر في فلتاتِ لسانِهم. 

فما تُخفي صدورهم أكبر، فلا تُذلّوا أنفسَكُم تَسترضُونَهم، فلَن يرضَوا عنكُم، والله ورسولُه أحقُّ أن تُرضُوهُ إن كُنْتُمْ مؤْمِنِين.

واحذرُوا أنْ تنخدِعُوا بنُصحِ مَن ثبتَ خِداعُه منهم، وبغضُه لكم.

ثم تُختَم الآيات بما يقيم الحجة على كل من يغفل ولا  يعتبر، تخاطب أصحاب العقول:  أليس الواجب بعد هذا التفصيل والتوضيح لحالِ المخادعينَ؛ أن تكونَ لديكُم فطنةٌ وفراسة وتوسمٌ، تميّزونَ بهِ بينَ النصحِ والغشِّ، والخِداعِ والصدقِ؛ (إنّ في ذَلكَ لآياتٍ للمُتَوَسّمِينَ).

فلا تحلّ الغفلةُ بأحدٍ بعدَ هذا البيانِ الواضحِ، ويمكنُ عدوّه منه - فيجعلُه ناصحًا وموضعًا لثقتِه - إلّا مَن تخلّى عن عقلِه، ووضعَ القفل على قلبهِ: (كذلك يبين الله لكم الآيات إن كُنْتُمْ تعقلون).

والآياتُ كذلك منهجٌ قويمٌ في تربية المؤمنِ على الفطنةِ والفراسة والتيقظ، وعلى التأمّلِ في الأسبابِ والمسبّبات، وأخذِ الحذرِ المشروعِ مع النصحاءِ ومع الخصومِ على السواء، وفي تعليمِ الاستفادةِ مِن تجارِب الماضِي ودروسِ الحياة، والاعتبارِ بذلكَ كله والاتّعاظ، وفي الصحيحِ مِن قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلّم: (لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِن جُحرٍ مَرّتينِ).

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الأحد 10 شوال 1436 هـ

الموافق 26 يوليو 2015 م

 

التبويبات الأساسية