ما بعد تسريح المعتقلين

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سراح نحو مائتي معتقل من الجماعات الإسلامية الأيام الماضية بعد حوار طويل أسفر عن نجاح باهر رجع بهذه الجماعات إلى تصور صحيح لفهم الإسلام ومبادئه السمحة، ورجوع عن تكفير المسلمين ونبذ ما كانوا عليه، الذي عبروا عنه فيما كتبوه مفصلا في نحو من 400 صفحة بعنوان (دراسات في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس).

هذا الحدث كان له وقع حسن وأزاح عن عائلات هؤلاء المعتقلين وذويهم كابوسا لازمهم سنين طويلة، كدر عيشهم ونغص حياتهم، وأزاح عن المعتقلين أنفسهم كابوسين؛ كابوس السجن وضيقه، وكابوس الفهم الخاطئ للدين، المنحرف عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وشرعه، ولكن ماذا بعد هذا؟

علينا إن أردنا تصحيحا حقيقيا نضمن به عدم رجوع هؤلاء إلى ما كانوا عليه، وحلولا لأزمة ما تعانى منه الأمة اليوم من خروج جماعات متشددة غالية في فهم الدين ترى العنف هو السبيل للإصلاح، أن نريها بالفعل والعمل لا بالكلام، أن هناك طريقا آخر للإصلاح بالسلم والأمن والإقناع، والنظر في الأسباب التي غذت هذا التطرف المقيت وإيجاد حلول لها، فإن علاج الأسباب يستأصل جذور المرض ولا يُبقي له أثرا، ويرجع بالعافية على الكافة، ويعيش المجتمع كله في أمن، فيستريح ويريح، والعافية إذا شملت الكافة حولت الكافة إلى حُماة للأمن وحُرَّاس له، يُستغنى به عن كثير من المعتقلات والسجون.

أما العلاج الذي عليه المسؤولون عامة في البلاد العربية والإسلامية عموما، فيعتني بعلاج الأعراض المتمثل في القهر وغلبة السلطان، ويُعرض عن الأسباب، فلا يزيد الأمر إلا سوءا، لأنك تستطيع أن تنتزع محفظة أحد بالقوة وتسلبه ماله، لكنك لا تستطيع أن تسلبه أفكاره إلا بالإقناع.

وعلاج الأسباب له مساران، فكري خفي مدسوس، ومادي محسوس.

الأول أساسه إتاحة البديل السوي الذي يحل محل الفكر المتطرف، ولا يكون ذلك إلا بالتعليم الصحيح لمبادئ الدين في المعاهد والجامعات والمساجد، وتعلم السنة؛ سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصحيحة على فهم سديد بفقه وبصيرة، لا أن ننكر السنة من أصلها ونقول لهم: السنة ليست حجة في الدين، ولا حُجَّةَ في التشريع سوى القرآن، فلو قلنا هذا لكنا أولا مخالفين أوامر القرآن الكثيرة التى تأمر باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، ولعَدُّوا ثانيا هذا منا تطرفا وقابلوه بتطرف مثله، فنبذ السنة بطبيعة الحال يُقابله انحياز إلى السنة، يكون مع إغراق في الظاهرية دون تفقه وبصيرة، يقود إلى التشدد والتطرف.

فحل مشكلات التطرف في بلادنا وغيرها سهل ميسر إذا أخذنا بأسبابه، بنشر الثقافة الدينية الصحيحة بين الناس، بإعادتها بقوة إلى حياتنا اليومية، وإلى مناهج الدراسة والتعليم في المعاهد والمدارس والجامعات، التي أُفرغت فيها المواد الدينية من محتواها من سنين وهُمِّشت، فلم يعد لها دور ولم يعد بها اعتناء، والآن نجني ثمار هذا التهميش.

علينا في الأخذ بالأسباب أن نعيد إلى المسجد دوره الرائد في الدرس والموعظة والخطب الدينية وحلقات العلم المنهجية المُوَسَّعة، تحت إشراف علمي موضوعي، هدفه الإصلاح الحقيقي لرفع الجهل وتوصيل المعارف الدينية الصحيحة، المبنية على الوسطية التي جاء بها الإسلام، دون إفراط أو تفريط، إن لم نفعل هذا بقوة وشجاعة ومسؤولية ونُخَلِّص أنفسنا من الخوف على الأمن والشباب من دَور المسجد بتقديم منهج علمي صحيح، فالبديل عدم الأمن، بتلقف خليط مستورد من الأفكار الدينية مشوشة من هنا وهناك، قائم إما على إفراط وغلو وتطرف يأتي على الأخضر واليابس، أو تفريط وجهل مظلم تتفاقم عنه الأزمات وتتمكن الأوجاع، وتثخن الجراح، وتغيب المفاهيم الصحيحة للدين، وينتهي بنا الحال إلى علاج الأعراض، والداء يتمكن، وكلما وجدنا حلا لمشكلة أَطلَّت علينا برؤوسها مائة مشكلة.

علينا لنأخذ بالأسباب أن نبني المعاهد والمؤسسات التي تؤهل لنا الكوادر الكُفأة القادرة على توصيل الخطاب الديني المقنع المعتدل، الذي يستقر في القلب، ويحول تعاليم الإسلام عند السامع إلى سلوك وعمل، لا خطاب مُمِلٍّ يدخل من أذن ويخرج من أذن، ويستدعي النعاس والنوم، إننا بتأهيل الكوادر الصالحة للخطاب الديني المعتدل غير الموجه، نُقْنع من نخاطب بالمنطق والبرهان، ونوفر أمنا حقيقيا يحرس نفسه، لا أمنا نحن نحرسه، وفي ذلك خير لحياتنا، وفلاح لآخرتنا، ويوفر علينا الجهد والمال والوقت الذي نبذله ونحن نُعرض عن منهج الله تعالى .

أما علاج الجانب المادي المحسوس، فعلى من يعنيهم الأمر في هذه البلاد وفي غيرها، أن ينظروا في مشاكل الشباب التي تؤرقهم وتقض مضاجعهم، الشاب يجد نفسه وقد بلغ الأربعين ولا زال يحلم بالبيت والزوجة والوظيفة، وكلما اقترب من هذا الحلم وجده سرابا، وحتى ما يوضع لبعض هذه الثلاثة من حلول يجده الشاب المسلم غير مقنع، فمشاريعنا لحل أزمة الإسكان في الدول العربية كلها للأسف لا تقوم إلا على الإقراض بالربا، الشبح المخيف الذي لا يقدر مسلم على مواجهته، فمن يقدر على حرب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم التي أذن بإعلانها على المتعامل بالربا.

وفرص العمل وإن وجدت، وهي قليلة، فهي أيضا في نظر الشاب المسلم غير نظيفة، محفوفة بالمعاصي والمخالفات التي تفسد الدين والدنيا، رشاوى ـ استغلال نفوذ ـ سرقات واختلاسات ـ تزوير وغش ـ اختلاق مشاريع وهمية ـ صفقات مشبوهة ـ اختلاط فاضح غير منضبط فكك الأسر وأغرى بالفساد والخيانة من الجنسين، وكل هذه المخالفات ليست لها إدارة حازمة تطبق القوانين على من يرتكبها.

العدل الاجتماعي المتمثل في تأمين القدر الضروري من الحياة الكريمة للشباب في النفقة أو العمل والمسكن والأسرة أمر لا مناص منه إن أردنا إصلاحاً حقيقيا نُخرج به الشباب من دائرة العنف ونضمن به عدم رجوع من أخرجناهم إليه.

إن لم نأخذ هذا العدل الإجتماعى من الإسلام وهدي محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلنأخده من دول الغرب التى اهتدت إليه بعقولها، فمن بلغ من رعاياهم سن الرشد كان لزاما عليهم بمقتضي قوانينهم أن يوفروا له المأكل والمسكن والنفقة حتى يجدوا له عملا يكفيه ويُرضيه، فقد أخذوا منا هدي الإسلام في إصلاح الرعية دون إيمان به، وأعرضنا عنه مع إيماننا به، وهذا ما يؤكد حقا أن الإسلام هو دين الفطرة.

والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

19 ربيع الثاني 1431 هـ

الموافق 3 / 4 / 2010

 

التبويبات الأساسية