فرضية السعي وموضعه

بسم الله الرحمن الرحيم

فرضية السعي وموضعه

 

السعي بين الصفا والمروة من فرائض الحج والعمرة عند جمهور أهل العلم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم  قولا وعملا، قال تعالى:(إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)،  وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (.. فَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ الله حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ )، وعن نسوة من بني عبد الدار أنهن رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو يسعى، وسمِعْنه يقول: ( اسْعَوْا فَإِنّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ )، وقال صلى الله عليه وسلم : (.. نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا وَقَرَأَ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله )، وطاف رسول الله * وسعى ورمى الجمرة وقال: ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ ).

والصفا والمروة اللذان أخبر الله تعالى أن السعي بينهما من شعائر الله هما علمان لموضعين معروفين من وقت نزول الخطاب إلى يومنا هذا، كما أنهما شعيرتان في نسك أعمالُه عبادات توقيفية، لا تقبل القياس ولا التبديل والتغيير، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ )، وقد قال الله تعالى في بيان موضع هذه الشعيرة :(أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، أي الصفا والمروة ،  ومعنى هذا أنه لا بد لصحة السعي  من تحقق البينية بينهما، كما ذكر القرآن .

 الصفا والمروة:

اتفقت المعاجم والمصادر الفقهية والتاريخية على أن الصفا هو الصخرات الملساة التي تقع في سفح جبل أبي قبيس، وهي صخرات معروفة بأعيانها ، وصفها المؤرخون والفقهاء وأرباب المعاجم على مر العصور والدهور، وحَدَّدُوها بالوصف والطول والعرض والقدم كما حَدَّدُوا المسعى بالأصبع والذراع، ولم يختلفوا على موضعها، ولا تزال موجودة إلى الآن بادية للعيان.

وذكروا أيضا أن المروة هي واحدة المرو، حجارة بيض برّاقة صلبة، وهي علم على موضع معروف بعينه قائم بذاته وصفاته، مقابل ومواجه من الجهة الشمالية لجبل الصفا، وأنها جبل صغير يقع على سفح جبل قُعيقعان .

وفيما يلي كلام أهل العلم في تحديد هذين الموضعين: 

قال النووي: الصفا هو مبدأ السعي وهو مكان مرتفع عند باب المسجد الحرام، وهو أنف من جبل أبي قبيس، وهو الآن إحدى عشرة درجة فوقها أَزَج كإيوان وعرض فتحة هذا الأزج نحو خمسين قدما، وأما المروة فلاطئةجدا، وهي من أنف جبل قُعيقعان، وهي درجتان، وعليها أيضا أزج كإيوان، وعرض ما تحت الأزج نحو أربعين قدما، فمن وقف عليها كان محاذيا للركن العراقي وتمنعه العمارة من رؤيته، ثم قال: اعلم أن السعي وهو ما بين الصفا والمروة واد وهو سوق البلد ، ملاصق للمسجد الحرام.

وقال البكري: الصفا المذكور في القرآن مكان مرتفع من جبل أبي قبيس .

وقال عن المروة: هي أكمة لطيفة في سوق مكة تحيط بها وعليها دور أهل مكة، وهي في جانب مكة الذي يلي قُعيقعان، وقال عن قعيقعان هو: جبل بمكة الواقف عليه يشرف على الركن العراقي، إلا أن الأبنية قد حالت بينهما، قال البلادي: ويرف الآن بجبل هندي .

وقال ياقوت: (... أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس، بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق، ومن وقف على الصفا كان بحذاء الحجر الأسود ).

وقال الفاسي: ( الصّفا هو في أصل جبل أبي قُبيس، على ما ذكر غير واحد منَ العلماء، ومنهم أبو عُبيد البكري والنووي ).

وقال أيضا:(.. والصفا من جبل أبي قبيس على ما قاله العلماء ، وهو بأسفله ).

وقال القرطبي: ( أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضاً، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف ).

وفي حاشية القليوبي: والصفا من جبل أبي قبيس, والمروة من جبل قُعيقعان.

وقال البلادي:( أبو قبيس: هو الجبل المشرف على الكعبة المشرفة من مطلع الشمس، وكان يزحم السيل على المسجد الحرام فنحت منه الكثير وشق بينه وبين المسجد الحرام طريق للسيارات، وهو مكسو بالبنيان وفي رأسه مسجد صغير ).

 وقال في معالم مكة التأريخية والأثرية: ( أبو قبيس من أشهر جبال مكة، مع أنه ليس من أكبرها ، تراه يشرف على المسجد الحرام من مطلع الشمسط ).

فهذا التوثيق من مصادر متعددة يدل على أن قعيقعان متصل بالمروة اتصال أبي قبيس بالصفا، والأكمة اللطيفة الصغيرة منه التي تشرف على الركن العراقي اختصت باسم المروة، كما اختص سفح أبي قبيس الذي يشرف على ركن الحجر الأسود بالصفا.

وفي العصر الحديث ذُرع عرض الصفا قبل التوسعة السعودية للحرم وتجديد المباني، وذلك قبل أزيد من خمسين عاما، من قبل هيئة علمية وفنية على أعلى مستوى، برئاسة المفتي الأسبق للمملكة الشيخ محمد بن إبراهيم، وكلفت بالتدقيق والبحث عن حد الصفا والمسعى لتنفيذ التوسعة، فانتهت إلى أن عرض الصفا على ما شاهدوه من عقود الجبل آنذاك ، كان (16) مترا، ـ وهو يتفق مع ما ذكره النووي من أن اتساع المسعى خمسون قدما (50) ـ وكتبوا تقريرا بذلك بعد معاينة عُقد الجبل ومشاهدتها على الواقع، وذلك لضم ما يمكن ضمه إلى المسعى من البناء الواقع حوله.

فالصفا إذا هو عَلَمٌ على صخرات معروفة بعينها عند العرب وأهل الإسلام قديما وحديثا، متصلة بجبل أبي قبيس تقع على سفحه، وهو وإن كان متصلا بأبي قبيس ومجتزأ منه ، لكن لموضعه وصخراته وصف واسم يختص به عن باقي الجبل الممتد.

والسعي بين الصفا والمروة الذي نزل به القرآن ، هو بين هذا الجزء الخاص من الجبل المسمى بالصفا، وبين الجزء الآخر الخاص المقابل له، المسمى بالمروة، لا بين أصل الجبلين؛ أبي قبيس المتصل بالصفا، وقعيقعان المتصل بالمروة، لأن الله تعالى قال:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ)، فسماهما ، ولم يسم غيرهما من الجبال، ولم يُبهم بذكر السعي بين جبلين مطلقا، ومن أراد أن يسعى بين أبي قبيس وقعيقعان، المتصلين بالصفا والمروة ـ على ما تبين من المصادر السابقة ـ مجاوزا حد ما يسمى الصفا وحد ما يسمى المروة ، فقد سعى بين أبي قبيس وقعيقعان ، ولم يسع بين الصفا والمروة ، وإن كان أبو قبيس وقعيقعان أصلين للصفا والمروة، ومن فعل ذلك لم يصادف سَعْيُه محلَّه، لأن الأمر بالأخص لا يستلزم الأمر بالأعم، فالأمر بقتل المحاربين لا يستلزم الأمر بقتل كل كافر ، وإن كان أصل الكفر يجمعهم، وهذا بَيِّن .

بل في كلام الأزرقي وغيره من المؤرخين ما يفيد أن الصفا يشتبك ويتصل بسلسلة من الجبال الصغيرة المرتبطة بأبي قبيس، كل منها له اسم يُعرف به يُمَيِّزه عن غيره، ويفيد كلامه وكلام غيره أن ما يتصل بالصفا من ناحيته الجنوبية هو جبلٌ آخر سموه فاضحاً وسموا واجهة أبي قبيس وسفحه الجنوبي والشعاب النازلة منه على المسيل اللاصق به من الجنوب: أجياد الصغير، فهذه ثلاثة جبال متغايرة؛ الصفا، وأجياد الصغير، والفاضح، مختلفة الأسماء، مستقلة الذوات، مجتزأة كلها من جبل واحد؛ أبي قبيس، كل منها جبل مستقل بذاته وصفاته، يعرف بعينه، متميز عما سواه، فمن أُمر بالسعي بين الصفا والمروة فسعى بين أبي قبيس، الذي هو امتداد للصفا من الجهة الجنوبية الشرقية، أو الفاضح الذي هو على سفح أبي قبيس من جهة الصفا ـ  وبين المروة ، لم يكن آتيا بالمأمور، وهو السعي بين الصفا والمروة، ومن لم يكن آتيا بالمأمور لم يبرأ من عهدة التكليف.

ذلك أن التمييز بين هذه الجبال على النحو الذي ذكره الأزرقي وغيره ، يمنع جعلها سواء في الحكم، أو أن ينوب بعضها عن بعض في المشاعر وأماكن العبادة، المحددةُ مواضعها بأسماء تُمَيِّزها بنص من الشارع، وإلا لفقد الاسم دلالته ومعناه، ولجاز لمن طُلب منه الوقوف بعرفة أو بالمشعر الحرام أن يقف بما جاورهما من العزيزية مثلا، وهذا بَيِّن الفساد، فقد عاب الله على قريش ومن كان على دينهم من الحُمس حين خالفوا موضع النُسك باستحسان عقولهم، حيث وقف الناس بعرفة، وهي من الحل، ووقفوا هم بالمزدلفة، لأنها من الحرم، وقالوا: لا نخرج من الحرم لأننا أهل حرم الله، فمُنعوا من ذلك، ونزل فيهم قول الله تعالى:﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، خَرَّج البخاري في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( كَانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِن عَرَفَاتٍ وَكَانَ الحُمْسُ يُفِيضُونَ مِن المُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ لا نُفِيضُ إِلا مِن الحَرَمِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَفِيضُوا مِن حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ رَجَعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ )، وهو نص في رد الاجتهاد على خلاف ما جاء به النص في تحديد أماكن العبادة .

طول المسعى وعرضه :

بعد أن تبين لنا المراد بالصفا والمروة الوارد ذكرهما في القرآن، كما عرَفه العرب، وعرّفه الفقهاء والمؤرخون وأرباب المعاجم، وتبين أن السعي المأمور به شرعا لا يتحقق إلا بينهما، فما ماهية هذه البينية، وما تحديدها طولا وعرضا؟ بحيث يكون الساعي فيها آتيا بالمأمور، والخارج عنها مخالفا للمشروع؟.

لم يأت في كتب السنة تحديد لطول المسعى وعرضه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن موضع السعي بفعله، فقال: ( لتأخذوا مناسككم ) وهو المُبَيِّن لكتاب الله تعالى، واستمر نقل ذلك عنه ممن شاهدوا سعيه صلى الله عليه وسلم  ، ومن نقل عنهم خلفا عن سلف إلى يومنا هذا، وضَبَطَ طول المسعى وكذلك عرضه الفقهاء والمؤرخون الثقاة، ضبطا دقيقا بالذراع والقدم والأصبع (السنتيمتر)، وهذا غاية في التحوط والتحرز، وما حملهم على ذلك إلا المحافظة والخوف على الشعائر وأماكن العبادة من أن يدخلها تبديل أو تغيير.

يقول أبو الوليد الأزرقي في (أخبار مكة): (... وذرع ما بين الصفا والمروة سبعمائة ذراع وستة وستون ذراعاً ونصف ذراع (766.5) وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذاءه على باب دار العباس بن عبد المطلب، وبينهما عرض المسعى: خمسة وثلاثون ذراعا ونصف (35.5) ) .

كما ذكر طول الوادي الذي يسن فيه الرمل والشد فقال: ( ومن العلم الذي على دار العباس إلى العلم الذي عند دار ابن عباد الذي بحذاء العلم في حد المنارة، بينهما مائة ذراع وواحد وعشرون ذراعاً (121) ).

وقال الفاكهي في أخبار مكة: ( وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما وبينهما عرض المسعى: خمسة وثلاثون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا ).

وقال الفاسي في شفاء الغرام، بعد أن نقل كلام الأزرقي: ( وقد حررنا مقدار ما بين هذه الأعلام طولا وعرضا وذلك أن من العلم الذي في جدر باب المسجد الحرام المعروف بباب العباس عند المدرسة الأفضلية إلى العلم الذي مقابله في الدار المعروفة بدار العباس ... يكون ذلك بذراع اليد: إحدى وثلاثون ذراعا وخمسة أسباع ذراع (7/5. 31)، وذلك ينقص عما ذكره الأزرقي في مقدار ما بين هذين العلمين ).

وذكر الفاسي أيضا عرض المسعى من الناحية الأخرى فقال: ( ومن العلم الذي بالمنارة المعروفة بمنارة باب علي إلى الميل المقابل له في الدار المعروفة بدار سلمة (دار ابن عباد) ... سبعة، بتقديم السين، وثلاثين ذراعا ونصف ذراع وسدسي سبع ذراع (37.5) ).

وقال القليوبي: وقدر المسافة بينهما ـ أي الصفا والمروة ـ بذراع اليد سبعمائة وسبعة وسبعون ذراعا, وأن عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعا .

وقد اتفق الفقهاء على وجوب السعي في بطن الوادي وعلى سمته في باقي المسعى، وقالوا: لا يجوز النقص في طوله ، بحيث لا يكمل الساعي الشوط من الجبل إلى الجبل، ولا الخروج عن سمت ما بين الجبلين في العرض، لأن البينية المأمور بها لا تتحقق مع الخروج عن العرض المسامت للجبلين، ولا بالنقص من الطول .

يقول النووي في مبحث واجبات السعي: ( أحدها، أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة, فلو بقي منها بعضُ خطوة لم يصح سعيه, حتى لو كان راكبا اشترط أن يُسَيِّر دابته حتى تضع حافرها على الجبل أو إليه, حتى لا يبقى من المسافة شيء, ويجب على الماشي أن يلصق في الابتداء والانتهاء رجله بالجبل, بحيث لا يبقى بينهما فرجة, فيلزمه أن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه, ويلصق رؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه ).

ثم قال : ( (فرع)، قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي, فلو مر وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه; لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف، فإن التوى شيئا يسيرا أجزأه، وإن عَدَل حتى يُفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز )، وكذا قال الدارمي (من فقهاء الشافعية، محمد بن عبد الواحد ت 448 هـ): ( إن التوى في السعي يسيرا جاز, وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا, والله أعلم ).

وفي مواهب الجليل للحطاب المالكي: ( من ترك من السعي شيئا ولو ذراعا رجع له من بلده، ومِنْ شرطه ـ أي السعي ـ كونه بين الصفا والمروة، فلو سعى في غير ذلك المحل، بأن دار من سوق الليل أو نزل من الصفا ، ودخل من المسجد لم يصح سعيه ).

وقال ابن قدامة في المغني: ( فإن ترك مما بينهما ـ أي بين الصفا والمروة ـ ولو ذراعاً لم يجزئه حتى يأتي به.( 

والمسعى الحالي بدون التوسعة الجارية الآن ، يتفق في عرضه مع ما ذكره الأزرقي والفاكهي ومن بعدهم من الفقهاء في زمانهم عن عرض المسعى (36) ذراعا تقريبا، وأكاد أجزم أن هذا هو عرض المسعى الذي سئل الشافعي عمن خرج عنه في سعيه، فأجاب بقوله: فإن التوى شيئا يسيرا أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجز، وكذا قال الدارمي كما تقدم النقل عنه، فإن الشافعي رحمه الله عصري الأزرقي، فقد توفي الشافعي 204 هـ والأزرقي وإن اختلف في وفاته اختلافا كبيرا ما بين 223 ـ 253 هـ فإنه يخبرنا في كتابه (أخبار مكة) عما رآه وشاهده بنفسه عام 216 هـ، أي هو بعد وفاة الشافعي باثني عشرة عاما، لم يكن صغيرا ولا حديث سن، بل كان ممن له مشاركة في العلم والتقييد، وعليه فيكون المسعى الذي يخبرنا الأزرقي عن ذرعه طولا وعرضا هو بعينه المسعى الذي سئل الشافعي عنه، وقال: لا يصح السعي خارج عرضه آنذاك ـ (36) ذراعا ـ الذي لا يزال تقريبا هو عرضه الآن قبل التوسعة الحالية، ولئن كان عرضه الآن ربما زاد أذرعا قليلة عما ذكره الأزرقي وفي عهد الشافعي، فإن هذه الزيادة هي التي قال عنها الشافعي: إلا التواء قليلا، أي فإنه لا يضر، وسبب ذلك أن تحديد العرض إنما عرف بالسمت بين الجبلين وليس بالذراع، والسمتُ قد يَختلف فيه تقدير عن تقدير اختلافا يسيرا عِلاوة على التواء الوادي منذ الزمن الأول مما جعلهم يدخلون بعضه في توسعة المسجد الحرام على عهد الخليفة المهدي العباسي عام 167 هـ كما ذكر الأزرقي، وهو مما يغتفر ولا يضر ، لأن السعي لم يخرج عما بين الجبلين بالسمت والمناظرة.

 وفي عام 1368 هـ صدر أمر بالبدء في توسعة شاملة للحرم المكي وشُكلت لذلك هيئة علمية على أعلى مستوى لتحديد المواضع التي تشملها التوسعة، وإبداء الرأي الشرعي، وذلك برئاسة المفتي الأكبر آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم، وفي عضويتها كل من: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علوي عباس مالكي، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم، أخ الشيخ المفتي، والشيخ عبد الله بن دهيش، والشيخ عبد الله بن جاسر، والشيخ عبد العزيز بن رشيد، وانتهوا من خلال التتبع لعقد جبل الصفا إلى أن المحل المحجور آنذاك بالأخشاب في أسفل الصفا داخل في الصفا، ما عدا فسحة الأرض الواقعة على يمين النازل من الصفا، قالوا: فإننا لم نتحقق أنها من الصفا، أما باقي المحجور بالأخشاب فهو داخل في مُسَمَّى الصفا، ومن وقف عليه فقد وقف على الصفا، كما هو مشاهد، وقالوا: نرى أن ما كان مسامتا للجدار القديم الموجود حتى ينتهي إلى صبةالأسمنت ، التي وضع فيها أسياخ الحديد هو منتهى محل الوقوف من اليمين للنازل من الصفا، أما إذا نزل الساعي من الصفا، فإن الذي نراه أن جميع ما أدخلته هذه العمارة الجديدة فإنه يشمله اسم المسعى، لأنه أدخل في مسمى ما بين الصفا والمروة، ويصدق على من سعى في ذلك أنه سعى بين الصفا والمروة، قالوا وعند إزالة هذا الحاجز والتحديد بالفعل ينبغي حضور كل من المشايخ المذكورين آنفا، حتى يحصل تطبيق ما قرر هنا ، وبالله التوفيق.

ثم صدر أمر باجتماع اللجنة ومعها المقاول الشيخ محمد بن لادن.

وذكروا في تقريرهم: إنه بعد الإحاطة بما تضمنته القرارات السابقة بخصوص موضوع الصفا، جرى إزالة الحاجز الخشبي والتطبيق لما قرر سابقا، وتم التحديد بالفعل بحضورنا جميعاً، واتفاقنا على ذلك، وعلى هذا حصل التوقيع.

ثم وقعوا جميعا بصفتهم الوظيفية على المحضر، وفي شعبان من عام 1380 هـ تمت إزالة مركز الصفا والمباني التي خلفه وضمها للمسعى.

وقد جرى ذرع  عرض الصفا من قبل هذه الهيئة العلمية التي اختيرت قبل أزيد من خمسين عاما سنة 1375 هـ برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي بعد أن دققت وتحققت من حدود الجبل آنذاك قبل التغييرات وإزالة المباني ـ ذرعته بداية من الطرف الغربي للصخرات إلى نهايته ، محاذيا الطرف الشرقي للصخرات في مسامتة موضع العقود القديمة، فظهر أن العرض المذكور يبلغ ستة عشر متراً، وعليه قالوا: لا مانع من توسعة مكان الصعود المذكور في حدود العرض الموجود على أن يكون مكان الصعود متجهاً إلى ناحية الكعبة المشرفة ليحصل بذلك استقبال القبلة كما هو السنة، وليحصل الاستيعاب المطلوب شرعاً.

كما وقفت اللجنة أيضاً على المروة فتبين لها بعد الاطلاع على الخرائط القديمة والحديثة للمسعى، وبعد تطبيق الذرع للمسافة فيما بين الصفا والمروة، كما نص على ذلك الأزرقي والفاسي في كتابيهما، بأن المسافة المذكورة تنتهي عند مواجهة موضع العقد القديم من المروة، وهو الموضع الذي أقيم فيه الجسر.

فهذه شهادات أثبات عدول من أهل العلم والحل والعقد على أعلى مستوى في العلم والخبرة، طُلب منهم أن يكشفوا عن صخرات الصفا لضم ما يمكن ضمه لتوسعة المسعى آنذاك، فكلفوا أنفسهم ورجعوا إلى الوثائق والصكوك ، وما كتبه المؤرخون الثقاة وحدده الفقهاء، وقارنوا ذلك بما يرونه أمامهم بأبصارهم من عُقَد الجبل، وطبقوا ما علموه على الواقع، فشهدوا على ما رأوه من امتداد صخرات الصفا، لضم ما يمكن ضمه حينها، وشهادتهم بذلك على الحدود والنهايات شهادة رؤية ومعاينة على ما هو محسوس أمامهم وملموس، لا يعتريه وهم ولا نسيان ولا قصور، ولا يشك عاقل في الاطمئنان إليه، وذرعوا ما انتهوا إليه في عرض الصفا فكان 16 مترا، وأزيح بناء على ذلك ما كان من بناء داخل هذه المساحة، وهذه تقريبا هي المسافة التي ذكرها الأزرقي ومن بعده لذرع عرض المسعى، وحددها النووي بالخمسين قدما ، وقال الشافعي: لا يجوز السعي خارجا عنها إلا التواء قليلا .

وعليه فلا وجه لتوسعة المسعى بإضافة 20 مترا أخرى إليه، وهي إضافة كبيرة، وليست زيادة يسيرة تغتفر وتدخل تحت السمت التقريبي لما بين الجبلين، أو التواء الوادي المعفو عنه، فهي إضافة تزيد على ضعف عرضه  الأصلي، بلا مستند ولا دليل، في موضع هو مكان عبادة ونسك، أمره توقيفي لا يثبت بالرأي واجتهاد العقول.

مناقشة وجهات النظر المخالفة:

وجهة نظر بعض أهل العلم المخالفة لما سبق، القائلة بتوسعة المسعى، تستند في جملتها إلى خمسة أمور:

1 ـ قالوا: شَهِد العدول من كبار السن أَنَّ جَبَلَيْ الصفا والمروة قبل 60 عاما كانا يمتدان إلى الشرق بما يسمح لإضافة التوسعة الجديدة 20 مترا، زيادة على المسعى الأول، وأثبتوا شهادتهم في المحكمة الشرعية، فلم يخرج المسعى بهذه الزيادة عما بين الصفا والمروة المأمور به.

الجواب عن هذا: إن شهادة هؤلاء عارضتها شهادة من سبقهم من العلماء الذين كُلِّفوا بالكشف عن حدود الجبل لتوسعة ما يمكن توسعته، وشهادتهم حينها شهادة على محسوس يرونه بأم أعينهم ويبصرونه وقت تحمل الشهادة، وشهادة هؤلاء شهادة من لم يتحمل الشهادة  ابتداء، ولم يعتن بها، وإنما هي شهادة متأخرة على أمر مضى عليه 60 عاما، بتحديد موضع طُلب منهم أن يتذكروا تفاصيله ووسعه وامتداده، والعادة أن الذي لم يُطلب منه تَحَمُّل الشهادة على شيء في وقته قد يذكره من حيث الجملة، لكن تفاصيله يصعب عليه إثباتها على وجه يُطمأن إليه ويُجزم به ، في موضع عبادة شأنها توقيفي .

فلو سألت أحدا هل كان في هذا الموضع شيء قبل 60 عاما وهو لم يتحمل الشهادة عليه في ذلك الوقت، لأمكنه أن يجزم مثلا بأنه كان فيه بيت أو مدرسة، لكن لو سألته عن نوع بلاط هذا البيت، أو لون طلاء المدرسة أو مساحتها بالمتر، لصعب عليه الجزم بتلك التفاصيل جزما يُطمأنّ إليه ، اعتمادا على ذاكرته، إلا ظنا وتخمينا، لأنه لم تُطلب منه الشهادة على التفاصيل في حينها، ولم يُوَثِّقها، والعهد بعيد، فما بالك إذا خالفت شهادته في التفاصيل مَن سَبِقه من أهل العلم، ممن شهد في الحين وَوَثَّق .

2 ـ قالوا: تأكدت شهادة الشهود على أن الصفا والمروة كانا أوسع مما هما عليه اليوم بشهادة الخبراء والجلوجيين، الذين أثبتوا امتداد الجبلين تحت الأرض، ليشملا هذه التوسعة، وأن قاعدة الجبل أوسع بالطبع من أعلاه، فالتوسعة لم تخرج عن قاعدة جبلي الصفا والمروة  .

أقول: إذا عرفنا مما سبق أن الصفا هو امتداد وسفح لجبل أبي قبيس، وأنه مشتبك معه ومع جبال أخرى غيره، لها أسماء مختلفة، وليس هو وسط صحراء فسيحة منبسطة من الأرض، وأن المروة هي أنف جبل قعيقعان، وامتداد له، وأن الواقف على طرف قعيقعان كما قال البكري وغيره: لا يفصله عن الركن العراقي سوى المباني التي تحول بينهما ـ إذا عرفنا هذا فلا يصعب حينها تفسير ما وجده الجلوجيون من امتداد قاعدة الجبلين، لأنهما مشتبكان وملتحمان مع أبي قبيس وقعيقعانوغيرهما من الجبال الصغيرة المتفرعة عنه  .

3 ـ استند بعض من رأى زيادة التوسعة في المسعى، على ما خَرَّجه الحاكم في المستدرك (3/502، 503) من أن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم قال ـ وهو يُخبر عن رغبة أبي جعفر المنصور في دار جدهم الأرقم بن أبي الأرقم: =أن المنصور كان يسعى بين الصفا والمروة، ويحيى على ظهر الدار ينظر إليه من حين يهبط من الوادي حتى يصعد إلى الصفا، قال: فيمر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوته لأخذتها+.

قالوا: هذا يدل صراحة على أن دار الأرقم بن أبي الأرقم كان موقعها على الصفا ، على يمين النازل منه، وموقع هذه الدار معروف حديثاً لم يتغير منذ كان، وقد كانت داراً للحديث ، وكان بينها وبين طرف الصفا الشرقي أكثر من عشرين متراً.

أقول: هذا الخبر الذي ذكره الحاكم، خرجه من طريق محمد بن عمر الواقدي، والواقدي هالك متروك الرواية عند أهل  الحديث، ولو صح لأمكن حمله على وجه صحيح، لا يخالف ما سبق، ولا يدل على مشروعية التوسعة.

وتوضيحه: أن دار الأرقم التي كانوا على ظهرها ، وفي متناول أيديهم قلنسوة المنصور وهو على الصفا ـ لو سلمنا أن موضعها يمتد 20 مترا إلى الشرق الذي شملته التوسعة الآن  (موضع مدرسة الحديث وجمعية تحفيظ القرآن الكريم) ـ فإنه  لا يلزم من هذه القصة البتة أن الصفا يمتد إلى الشرق 20 مترا، فدار الأرقم يقول المؤرخون هي على الصفا أو قربه، فيكون ما خرجه الحاكم ـ لو صح ـ محمولا على أن حائطها الغربي الذي كان يجلس عليه من كان المنصور يمر من تحتهم وهو على الصفا ملاصقا للمسعى من الشرق وباقيها يمتد شرقا خارجه، أما حمله على أن الصفا يمتد 20 مترا زيادة على ما هو عليه، فليس عليه من هذا الخبر مع سقوطه دليل ، يتعين حمل مضمون الكلام عليه.

4 ـ قالوا: الازدحام الشديد وتزايد الأعداد عاما بعد عام ، سيعرض الساعين إلى الاختناق والموت في ذروة المواسم إن منعنا التوسعة، فالقول بالمنع يوقع المسلمين في الحرج ويُعَرِّضهم للهلاك، والله تعالى يقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة )، ويقول:( يسروا ولا تعسروا ).

أقول: نعم ما جعل الله في أداء فريضة من فرائضه على المسلمين من حرج ، ولم يكلفهم سبحانه إلا بالحنيفية السمحة وما يقدرون عليه ، دون مشقة فادحة تُعَرِّضهم للهلاك، لكن الحرج يمكن رفعه بما يوافق المأمور، وليس لازما أن يكون بما يخالف المأمور في مَوْضِعِ عِبادةٍ ، أَمْرُها توقيفي، وذلك باستبدال التوسع الرأسي في المسعى بالتوسع الأفقي، فإن التوسع الرأسي لا يخرج بالسعي عن موضعه الذي ذكره القرآن بين الصفا والمروة مهما علا ، إذ لم يأت عن الشرع نص يحدد مستوى المسعى في موضعه انخفاضا وارتفاعا، فمن سعى في بطن الوادي وهو محفور أو مجروف بالسيول مترا أو مترين أو أكثر، أو سعى فيه وهو مردوم مُغَطًّى أعلاه بحجارة الأرض وترابها أمتارا، لا يزال ساعيا حيث أمره ربه، ولم يخرج عن مكان السعي إلى مكان آخر، فكذلك من سعى في الدور الأول أو الخامس، لم يخرج عن موضع السعي، إذ لا فرق ، وفي سعي النبي * على الراحلة راكبا ما يدل على أن مس أرض المسعى بالأقدام ليس شرطا في صحة السعي ، وما يدل كذلك على أنه ليس لارتفاع الساعي أو انخفاضه ـ مادام في مكان السعي ـ تأثير   هذا من حيث دلالة المنصوص ، أما من جهة النظر ، فلو أن أحدا جلس في الدور الثاني في بيته، لا يصدق عليه لا لغة ولا عرفا أنه خرج منه ، فهو لا يزال في بيته، أما من جلس في بيت جاره فهو في بيت جاره وليس في بيته، ولذلك عَدُّوا الجالس على ظهر المسجد جالسا في المسجد في الحكم والحرمة، قال مالك: قد كان عمر بن عبد العزيز إمام هدى وقد كان يبيت فوق ظهر المسجد مسجد النبي * ولا تقربه فيه امرأة.

5 ـ قالوا أماكن المشاعر والعبادة لا ينبغي أن تضيق بالحجاج والمعتمرين ضيقا يؤدي إلى الحرج، لذا لا زالت التوسعات تتوالى على المسجد الحرام، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بداية من توسعة عمر وعثمان رضي الله عنهما، وكلما توسع المسجد الحرام توسع المطاف فتحوّل موضعه عما كان عليه، فأين مطاف اليوم من موضع مطاف النبي صلى الله عليه وسلم  في حجة الوداع، ولا زال المطاف يتوسع إلى يومنا هذا، وذلك أمر سائغ لم ينكره قديما أحد من الصحب ولا التابعين، ولا من بعدهم من أئمة الدين، فتوسعة المسعى هي كتوسعة المطاف ـ الذي بدأ من عهد الخلافة الراشدة ـ سواء بسواء، إذا جازت هذه جازت هذه، وكتوسعة مواضع الجمرات، وكلها مواضع نسك دعت الحاجة إليها، كما دعت الحاجة إلى نقل مقام إبراهيم من موضعه، فما بال توسعة المسعى لم تعط حكم غيرها من التوسعات؟.

أقول: توسعة المسعى ليست كتوسعة المطاف ، ولا يمكن قياسها عليها ، والفرق الذي يمنع القياس هو أن توسعة المطاف لا تُخرجه عن الموضع الذي أمر الله تعالى بالطواف فيه في قوله تعالى:( (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، فمهما اتسع المطاف واتصلت صفوف الطائفين ، فالطواف لا يزال بالبيت العتيق الذي أمر الله تعالى به لم يخرج عنه ، فيستوي عند الزحام واتساع المطاف أقرب طائف إلى البيت،  مع أبعد واحد من الطائفين، في الاتصاف بكونه طائفا بالبيت العتيق، فلا يكون البعيد مهما اتسع شوطه خارجا في طوافه عن البيت العتيق.

أما توسعة المسعى فتحرج به عن الموضع الذي حدده الله تعالى للسعي في قوله تعالى:( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، لأن توسعة المسعى بما يزيد على ضعفه، كما جرت الآن، حتى مع الزحام واتصال صفوف الساعين، تجعل بعض الساعين يسعى في الموضع الذي أمر الله تعالى بالسعي فيه، وهو من حقق البنية بين الصفا والمروة في سعيه ، فمشى بين الجبلين، وبعض الساعين يسعى في غير الموضع الذي أمر الله تعالى بالسعي فيه، وهو من لم يحقق البينية وكان سعيه خارجا عما بين الصفا والمروة ، وهذا فرق جوهري يتعذر معه قياس توسعة المسعى على توسعة المطاف، ففي توسعة المسعى خروج بالتوسعة عن موضع النسك، بخلاف توسعة المطاف هي توسعة في موضع النسك، فاختلفا.

ومثله يقال في توسعة موضع الجمرات، فهي توسعة في موضع النسك، وليست توسعة تخرج النسك عن موضعه، أما مقام إبراهيم فالعبادة المتعلقة به، وهي الصلاة المأمور بها في قوله تعالى:(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، لم يتغير موضعها بتحويله من موضعه، فالمراد بالآية الصلاة خلف المقام، وذلك متحقق في موضعه الآن كما في موضعه قبل تحويله .

وهناك مخالفة أخرى محيّرة ، ولاينبغي إغفالها ، وهي قفل المسعى القديم بالكلية، وتعطيل السعي فيه تعطيلا كاملا ، أثناء تنفيذ التوسعة الجديدة ، وصار السعي كله ذهابا ورجوعا محوّلا إلى  الموضع الجديد ، فلم يعد الساعي الآن في التوسعة الجديدة ـ حتى عند المجوزين لها استنادا إلى تخفيف الزحام ورفع الحرج ـ يجد لنفسه عذرا  بأنه مرتبط بالمسعى القديم ، ارتباط اتصال الصفوف ، كما اتصلت  في الصلاة ، وأنه إنما ابتعد عنه للتخفيف عن الساعين ورفع الحرج عنهم ، بل وجد نفسه يسعى في غير موضع السعي ، منقطعا عن الموضع الأصلي انقطاعا كاملا ، لايربطه به اتصال صفوف ، ولا تخفيف ازدحام ، فصارت التوسعة بالنسبة إليه ليست كتوسعة المسجد عند الضيثق وامتداد صفوف المصلين  ، بل أشبه بنقل المسجد من موضع إلى موضع ، وهذا لا يجيزه أحد من أهل العلم ، لا في طواف ولا سعي ، ولا غيرهما من من العبادات المرتبطة بموضع لا يصح أداؤها في غيره

6 ـ قالوا: لم يأت في السنة تحديد لعرض المسعى، وذكر الفقهاء أنه لم يُتعرض لذلك ، لأنه لم يُحتج إليه ، فهو مسكوت عنه، وما سكت عنه الشرع فهو عفو، خصوصا إذا دعت إليه الحاجة كما في توسعة المسعى .

أقول: موضع النسك في السعي محدد من الشرع بنص القرآن ، غير مسكوت عنه ، حدده الله في قوله تعالى: ( أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، أي بين الصفا والمروة، والصفا والمروة علمان لجبلين معروفين، ولذلك أخرجهما القرآن بلفظ التعريف، كما ذكر القرطبي، فليس المراد بالصفا أيَّ جبل صخراته ملساة ، ولا بالمروة أي جبل صخراته بيض براقة صلبة، بل لا بد في السعي أن تتحقق البَيْنِيّة فيه بين الجبلين العلمين المعروفين، وما ذكره المؤرخون والفقهاء في عرض المسعى بالذراع الذي لم يَختلف تقديره من لدن المؤرخ الأزرقي في عصر الإمام الشافعي رحمهما الله تعالى، مرورا بالنووي والفاسي وهلم جرا، وانتهاء باللجنة العلمية في العصر الحديث برئاسة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم ـ هذا التحديد في بيان عرض المسعى كله في الحقيقة ليس إلا قرينة ترشد وتنبه على عرض الجبلين، ومدى اتساع عقدهما، كما صرحت بذلك اللجنة التي رأسها الشيخ محمد بن إبراهيم في تقريرها، بعد الكشف والمعاينة، قبل الهدم وتبليط محيط المسعى، فالتحقيق العلمي الذي بناء عليه مُنعت التوسعة، التي يجري تنقيذها الآن ، هو مُنْصَبٌّ على أن التوسعة قد جاوزت مقدار عرض الجبلين، كما حددتهما اللجنة العلمية المذكورة ، التي كُلِّفت بذلك.

 وما ذكره المؤرخون والفقهاء من عرض المسعى ينبغي أن يُفهم على أنه العرض الذي يوازي سمت ما بين الجبلين تقديرا لا تحديدا،  ولذلك اختلف تقدير عرضه بينهم اختلافا يسيرا بالذراع والذراعين،  ولذلك أيضا عندما سئلوا عن الخروج عنه تجاوزوا عن الالتواء اليسير،  لأنه لا يَخرج بالسعي عن أن يكون بين الصفا والمروة، بخلاف الكثير الذي يَخرج عن السمت، فإنه يخرج بالسعي عن موضعه ، وقالوا إن السعي فيه لا يصح.

لذا مرة أخرى أود أن أنبه على أن البحث في موضع السعي من حيث الصحة وعدمها، ينبغي أن ينصب على تحديد عرض الجبلين، فما خرج عنهما لا يُسمى مَسْعًى، لا على عرض الوادي، فإنه لم يأت بتحديده نص، وقد يتسع في بعض الأوقات ويضيق في وقت آخر، لعوامل بيئية واجتماعية مختلفة، وضيقُه أو اتساعه لا يتغير معه موضع السعي، الذي حدده القرآن بالبينية بين الصفا والمروة .

7 ـ قالوا: العلماء المعاصرون اختلفت اجتهاداتهم في حكم المسألة، ومنهم هيئة كبار العلماء في بلد الحرمين الشريفين، فمنهم ثلاثة تَرَجَّح عندهم جواز التوسعة، واثنان وعشرون تَرَجَّح عندهم عدم جوازها، أو توقفوا، وقد أخذ ولي الأمر برأي القائلين بالتوسعة، وحُكْم الحاكم يرفع الخلاف، فتكون المسألة مما ارتفع فيه الخلاف ، وصار القول قولا واحدا بالجواز ، لا تجوز مخالفته.

أقول: هذا الكلام فيه نظر من وجهين :

الأول أن العبادات لا يدخلها حكم الحاكم ، الذي يرتفع معه الخلاف ، وقول الحاكم  فيها لا يعدوا أن يكون إخبارا بفتوى ، يسوغ لأهل العلم مخالفتها ، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة مستوفية لئروطها ، أو باطلة فاقدة لشروطها ، ولا بأن السعي بين الصفا والمروة أو الطواف بالبيت على هيئة خاصة ، أو كيفية خاصة صخيح أو فاسد ، وإنما حكم الحاكم محله المصالح الدنبوبة ، قال القرافي :(( اعلم أن العبادات كلها على الاطلاق لايدخلها الحكم البتة ، بل الفتيا فقط ، فكل ماوجد فيها من الاختيارات ، فهي فتوى فقط ، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلا صحيحة أو باطلة ))  ثم عرف الحكم بما يفرقه عن الفتوى بقوله ، هو : ((ا إنشاء في مسألة اجنهادية ، تتقارب فيها المدارك ، لأجل مصلحة الدنيا )) وأضاف: ((وقولي لأجل مصالح الدنيا ، احترازا من العبادات ، كالفتوى بتحريم السباع ، وطهارة الأواني ، وغير ذلك مما يكون اختلاف المجتهدين فيه لا للدنيا ، بل للآخرة ))   ومثل لما يدخله الحكم من مصالح الدنيا ، فقال ((  كالاختلاف في العقود ، والأملاك والارهون والأوقاف ونحوها ))

الثاتي :  أن رفع حُكْم الحاكم للخلاف مشروط عند أهل العلم عامة؛ بما إذا لم يُخالف حُكمه نصا ولا إجماعا ولا قياسا جليا، وهنا الحُكْم خالف المنصوص عليه في قول الله  تعالى :(نَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) في موضع شعيرة تَعبُّدية، موضعها لا مجال فيه للقياس، فلا يرفع حُكمه الخلاف، والحاجة التي دعت إلى التوسعة  ـ وهي ضيق المكان ـ لها بديل مشروع لا يخالف النص، وهو التوسعة العلوية بتعدد الطِّباق والأدوار ، فيجب الرجوع إليه .

8 ـ كثير من أهل العلم يرون أن من المتعين أن يحال الخلاف في مشروعية توسعة المسعى إلى المجامع الفقهية المتخصصة لتبث فيه باجتهاد جماعي يقطع جهيزة كل خطيب، لأن الخطب في هذه النازلة جلل، يتعلق بركن من أركان الإسلام، وأمره يهم جميع الأمة .

أقول: نعم هذا متعين، لكنه تأخر عن وقته الصحيح، كان المتعين أن يحال موضوع توسعة المسعى إلى المجامع الفقهية قبل الشروع فيه، لا بعد الانتهاء منه، بحيث يتحرر الباحثون من الفقهاء والعلماء من كل الضغوط والمؤثرات الخارجية المختلفة، ومنها ضغوط الواقع الذي يفرض نفسه، حيث يبقى همهم هو البحث عن وجود مخرج لوضع قائم، لا البحث عن رأي صائب، صادر عن دليل راجح ، والله تعالى أعلم .

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

21 / جمادى الثانية / 1429 هـ

الموافق 24 / 6 / 2008

 

التبويبات الأساسية