الشيخ (محمد المَقُّوز) رفيقُ الدراسةِ

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ (محمد المَقُّوز) رفيقُ الدراسةِ

 

فقدَتْ ليبيا، وفقدَ المسلمونَ معها بمزيدِ الحزنِ، عَلَمًا مِن أعلامِ الرعيل الأول، ورمزًا مِن رموز العلم والمعرفة في بلادنا، هو الشيخ محمد الطاهر المقوز، فقيه موسوعي متمكن، أينما طلبتَه وجدته متميزا حاضرا يُسعفك؛ في الفقه وأصوله، في السياسة الشرعية، في اللغة العربية، في التجويد والأداء، في الفكر المعاصر وحركاته الثقافية والإصلاحية في العالم الإسلامي.
توفي الشيخ رحمه الله عن عمر بلغ الثمانين، في حادث سير أليم، راجعا من صلاة الجمعة يوم أمس، شهدَ له رحمه الله كل مَن عرفَهُ؛ بالفطنة والذكاء والنباهة والبديهة الحاضرة وجودةِ النظرِ، وبسدادِ الفهمِ، وصحيحِ الفقهِ، كان شديد العارضة، صادق الفراسة، وَفِيًّا لأصحابه يتفقدهم مهما بعد عهدهم.
وقبضُ العلماءِ مِن قبضِ العلم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).
وُلدَ الشيخ في منطقة الحرشة بمدينة الزاوية، وحفظَ القرآن، ثم رحل إلى تونس وبها تلقى تعليمَه في المرحلةِ الأولَى، ترافق في حلقاتِ جامع الزيتونة مع الشيخ مصطفى قشقش رحمه الله، وكانت بينهما مودة، وتربطه به علاقة حميمة، تلقى على شيوخ الزيتونة في خمسينيات القرن الماضي، فأخذ بحظ وافر من العلوم الشرعية واللغوية، وهناك أتقن علم التجويد، فكان الشيخ مجودا متقنا عذب الصوت متميزا في الأداء.
ثم رجع إلى ليبيا ليتابعَ تعليمَه بمعهد أحمد باشا الديني في الظهرة بمدينة طرابلس، حين اعتنَى الملكُ إدريس رحمهُ الله به وجدده ووفر لطلابه بسخاء متطلبات الدراسة والحياة الكريمة، ففاء إلى ظلالِه الوارفةِ وعيشتِه الراضيةِ طلابُ العلم الشرعي، الذين كانوا هنا وهناك يقاسون شدة الحياة من داخل ليبيا وخارجها، والشيخ محمد أثر من آثار هذا المعهد المبارك، وثمرة من ثماره اليانعة.
التحق الشيخُ محمد المقوز رحمه الله بعد عودته من الزيتونة بالسنة الرابعة بالمعهد، أول ما تأسس عام سبعة وخمسين، وتخرج في كلية الشريعة بالبيضاء عام ستة وستين، وأوفد إلى الأزهر لتحضير الماجستير عقب تخرجه، وتحصل على الماجستير في كلية الشريعة، وسجل رسالة الدكتوراة بالأزهر في موضوع موارد الدولة الإسلامية، ثم رجع إلى البيضاء عضوا بهيئة التدريس بكلية الشريعة، فنال حُظوة كبيرة من طلابه لِمَا كان يتمتع به من الكفاية العلمية الرفيعة، وما كان عليه من الصدق والنزاهة وكراهية الفساد والتملق، ومن طلابه المتميزين في تلك الفترة الذين كانوا يثنون عليه كثيرا ويُجلونه، صديقنا المرحوم الدكتور سليمان الجروشي، الذي رافقه بعد ذلك في رحلته إلى أمريكا، حيث أوفد الشيخ محمد إليها للدكتوراة، وأوفد تلميذه الدكتور سليمان للماجستير.
لكن الشيخ محمد لم يَطُل به المقام بأمريكا، وسرعان ما سئم المقام بها، فرجع منها عام خمسة وسبعين إلى التدريس أولا بكلية الشريعة بالبيضاء، ثم بقسم اللغة العربية والدراسات القرآنية بكلية التربية بطرابلس، الذي كان يترأسه صديقنا القدوة المصلح المجاهد الشيخ عبد الله الهوني رحمه الله، والذي كان يدرك غُربةَ ما تمر به البلد، ويرى أن وظيفةَ القسم المتعينةِ على مَن يتولاه تبليغُ الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عنى ولو آية).
والشيخ عبد الله الهوني هو صاحب فكرة تسمية المواد الإسلامية بمادة قرآنية (أ) وقرآنية (ب) في القسم المذكور، حيث كان من خلال هذه التسميات يُدَرس القسمُ علومَ الفقه والسنة وتفسير القرآن، (لا مصطلح التفسير الذي كان يُطلق في ذلك الوقت على مواد قسم الفلسفة، وهو من تلاعب نظام القذافي بالمصطلحات الشرعية)،وذلك في الوقت الذي كانت كلمة السنة في الوسط السياسي تُدخل الرجل القبر، ويَلْقى بها مصير الصَّدْر!
وقد أعطى الله الشيخ عبد الله قبولا بين الناس حتى مع ألد أعدائه، وقدرة في التغلب على خصومه من المحيطين بالنظام ما رأيتها لأحد غيره.
بقي الشيخ محمد المقوز في التدريس إلى أن أوفد عام ثمانين إلى بريطانيا لتحضير الدكتوراة في جامعة إكستر، وهناك ترافقنا مرة أخرى في مدينة إكستر، فكان نعم الرفيق والصديق.
ولم يكن يقدرعلى الرجوع إلى ليبيا، فقد كان في قوائم المطلوبين، لمجاهرته بالعداء لنظام القذافي، وكان جريئا في ذلك لا يخاف في الحق لومة لائم، فبقي في بريطانيا أزيد من ثلاثين عاما، التي هي سن العطاء والإنتاج، فحُرمت جامعاتنا وطلابُها من علمه الغزير، وأَعُدّ ذلك خسارةً كبيرةً للوطن لا تُعوض، ومع ذلك كان الطلابُ الذين يعرفون قدره يترددون عليه في بيته لقراءة بعض الكتب المتخصصة عليه، فكان بيتُه عامرا بطلاب العلم؛ ليبيين ومن بلاد أخرى، من الخليج وغيره.
واشتغل في هذه السنين على تحقيق كتاب (النوادر والزيادات) لابن أبي زيد القيرواني، ولكنه لم يبلغ به مرحلة النشر، ولو نُشر بتعليقاته وتدقيقاته النيرة لازدان الكتاب بها وزادته بهاء على بهائه.
وبعد الثورة رجع إلى ليبيا وشارك فيها بقوة، بالنصح والتوجيه.
كان الشيخ محمد عفيفا كريما، عزيز النفس، لا يحب الأضواء، وليس من السهل إقناعه بالمشاركة في أي عمل مؤسسي، فبصعوبة تم إقناعه بالمشاركة في اللجنة التي أسندت إليها إدارة جمعية الدعوة الإسلامية بعد الثورة، وطلبتْ منه دارُ الإفتاء بإلحاح أن ينضم إلى مجلس البحوث والدراسات الشرعية، لمعرفتها بمكانته، ولكنها لم تفلح في إقناعه، ولعل عزة نفسه حَرَمت طلابَه وبلدَه من الاستفادة منه كما ينبغي.
التحق الشيخ في العامين الأخيرين بالتدريس بكلية الآداب بطرابلس، ويوم أمس الجمعة فُجع بفقده أحبابُه وطلابُه وأهلُ بيته وأولادُه، أسأل الله أن يعوضهم خيرا، ويُهَوّن مصابهم، ويُسكنه فسيح جناته، ويَغفر لنا وله، ويَجمع شملَ أهلِه وأولادِه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
13 جمادى الأولى 1440 هـ
الموافق 19 يناير 2019 م

التبويبات الأساسية