السكوت عن الماضي ( 2 )

بسم الله الرحمن الرحيم
عودٌ على بدءٍ
السكوتُ عنِ الماضِي (2)

مرةً أخرى؛ المقصودُ مِن السكوت عن الماضي هو تعزيزُ الثقةِ بين الأطرافِ التي يؤلِمُها ما آلَ إليهِ أمرُ ليبيا، وذلك للوقوفِ صفًّا واحدًا في وجهِ العدوِّ المشترك، ولتتعاونَ كل الأطراف، ويكونَ قرارُها واحدًا في تقريرِ المصيرِ.
للوصولِ إلى هذه الغاية نحتاج إلى أمرينِ:
الأول - أن يُبديَ كلُّ طرفٍ حسنَ النيةِ مِن جانبهِ للطرف الآخرِ، والرغبةَ الصادقةَ في تقاربٍ تسودُهُ روحُ التعاونِ والتسامح، لا التوجسُ والحذرُ، والوشايَةُ والتخويفُ من التشدد، وهو ما تقتضيهِ أُخوّة الدّين المحاطة بسياج (إن بعض الظن إثم)، وعلى العقلاءِ في كلِّ جانبٍ أنْ يكفُّوا السّفهاءَ من كل طرف، ومَن شغلُهُم الشاغلُ التخريبُ وإفسادُ ذاتِ البينِ، وكفّهم هو نصرة لهم، على ما عرّف به النبي صلى الله عليه وسلم نصرة أخيك إذا كان ظالما، قال (أن تأخذ على يديه وتمنعه من الظلم).
تقارب مبعثُهُ الشعورُ بالخوفِ على الوطنِ أنْ يفقدَ هويتَهُ ويتمزّقَ، والخوفِ على مستقبلِ الأجيالِ أنْ نوَرّثَها العبوديةَ والفقرَ والحطامَ والركامَ.
مبعثُه الإيمانُ بالعملِ الجماعيّ المشترَك، وأنّ كلّ طَرَف محتاجٌ للآخرِ، لا غِنى لهُ عنهُ، فلا تُبنى ليبيا ويعمّها الأمنُ والاستقرارُ، إلّا بأيدي الجميعِ، لكنْ بأيدِي أبنائِها، لا بالأيدي الخارجيةِ، هذا هو الأمرُ الأولُ للوصول إلى تعزيز الثقة.
الأمر الثاني - أنْ نملكَ الشجاعةَ على مدِّ جسورِ التواصلِ مع الآخرين، للاتفاق على ثوابِت وقواسم مشترَكةٍ، لا يختلفُ عليها العقلاءُ، وتكون لنا الشجاعةُ أيضا ألا نعدّ هذا التواصلَ تركًا للمبادئ؛ نخشَى مِن الناس اللّومَ عليه، فإن التواصل لحفظ الوطن وإنقاذه، هو عينُ التمسكِ بالمبادئِ، بل هو أصل أصولها.
والسّعي إلَى وحدةِ الصفّ مع كل الأطراف ضمنَ ثوابتِ الوطن، هوَ تغير في أدوات العمل والاجتهاد للوصولِ إلَى الهدفِ، وليس تركا للمبادئ.
قضى عمر بتشريك الإخوة الأشقاء للإخوة للأم في الثلث في المسألة العمرية، أو الحمارية، في علم الفرائض، فقيل له اعتراضا عليه: “إنك لم تُشركهم في عام كذا” أي فيما قضيت به قبل، فقال: “تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي” فلم يمنعه قضاؤه الأولُ من الرجوع عنه عندما تبين له غيره.
ويمكننا أن نبدأ - فيما لا يختلفُ عليهِ العقلاءُ مِن ثوابتِ الوطنِ - بمكمَنِ الدّاءِ، الذي أصابَ منّا المقتلَ، والذي أراه يتمثل في أمرين، هما الجناحانِ اللذانِ تنهضُ بهما ليبيا مِن كبوتِها، إن اتفقْنا على وضعهِما موضعَ التنفيذِ.
أولُهمَا: ضرورةُ التحرّرِ مِن التدخلِ الأجنبيّ، بل أقولُ مِن الغزوِ الأجنبيّ، الغزو بنوعيه؛ الغزو العسكريّ، وغزو النفوذ والقرار.
فالشعبُ الذي يتدخل الأجنبيُ في شأنه ويتحكمُ في قراره، لم يملكْ حريتهُ بعد، والوقوفُ في وجهِ التدخل الأجنبي حقٌّ للشعوبِ تكفلُه كلّ قوانينِ الدنيا.
التعاونُ الدوليّ، مرحبٌ به معَ كل الأمم، قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) لكن ما دامَ ذلك تعاونًا قائمًا على تبادلِ المصالحِ، لا على الوصايةِ والإملاءاتِ، وفرضِ تراتيبَ أمنيةٍ استخباراتيةٍ، تسلبُ إرادة القرارَ، لأن هذا يعودُ بنَا إلَى استعباد الماضي ومَآسِيهِ، ونحن فرَرْنا منهُ.
الجناح الثاني للنهوض من الكبوة التحررُ مِن الظلم بنوعيهِ؛ ظلمِ الاعتقالاتِ والسجونِ خارجَ القانونِ، وظلمِ نهبِ المالِ العالم ومنعِ الحقوقِ، معنى هذا أن نتفقَ جميعًا على ضرورةِ العملِ على إقامةِ العدلِ، وألّا نرضَى بالظلمِ.
مِن الظلم أنْ نرَى منَّا مَن اضطرّوا إلى الهجرةِ وتركِ الديار، بسببِ تهديداتٍ لهم أو لأسَرِهم مِن بعضِ الكتائبِ.
مِن الظلمِ أنْ نرى ذلكَ ونغضّ النظرَ وكأنّنا لم نر ولم نسمع، فلا نتكلم جميعًا بصوت واحدٍ، نستهجن ونستنكر، ونحولُ دونَ وقوعهِ.
من الظلم أن يكون هناكَ مَن هو داخل ليبيا، ولَا يَقدرُ أنْ يدخلَ طرابلسَ، يخشَى على نفسِهِ مِن بعضِ الكتائبِ، التي تختلفُ معه في الرأي. 
لدينَا محتجَزونَ داخلَ السجونِ التي تسيطرُ عليها بعضُ الكتائبِ، خارجَ القانونِ، منهم مَن مضَتْ عليه سنون في المعتقلِ، ومنهم مَن يعذَّبُ، ومنهم مَن قُتل، هذا ظلمٌ لا يحلُّ السكوتُ عنه.
علينا أنْ نتفقَ على العملِ مجتمعينَ على رفعهِ عن جميعِ الناسِ، باستردادِ حقوقهم واسترجاع حريتهم وكرامتهم، والقصاصِ ممَّن ظلَمَهم.
ومَن ثبتت عليه تهمة يحوّل إلَى القضاءِ لينظرَ في أمرهِ، لا أن تتولّى ذلكَ كتائب لتصفيةِ حساباتٍ مع خصومِها السياسيينَ، والقرارُ الذي صدرَ مِن وزارةِ الداخليةِ مؤخرًا، بالأمرِ بالقبضِ على سبعةَ عشرَ متهمًا، وما أشبهه من قرارات الداخلية بالقبض على المجرمين وإحالتِهم إلى القضاءِ، قرارات في الاتجاهِ الصحيحِ لرفعِ الظلم وتطبيقِ القانون، لكن ما زلنَا نحتاجُ إلى كثير مِن العملِ المتكاثف الطويل الشاقّ لرفعِ الظلمِ، لا نقدرُ عليهِ إلّا بالتعاونِ، وأنْ نتكلمَ بصوتٍ واحدٍ لإنكار المنكر وندافعُ عن كلّ مسجونٍ خارجَ القانونِ.
نتكلّم بصوتٍ واحدٍ لتأمينِ رجوعِ مَن تركُوا الديار تحتَ الترهيبِ والتخويف إلى آخرِ مظلومٍ.
لكي نَنسَى الماضِي علينا أنْ نرفعَ الظلمَ، وإلّا فلن ننساه!
كيف لنا أنْ ننساهُ ونحنُ نعيشُهُ؟!
سنة الله في الظلمِ أنّه يُخرّبُ العامرَ مِن المَمالكِ ولا يبنِي الخرابَ، (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا)

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
14 رمضان 1440 هـ
الموافق 19 مايو 2019 م

التبويبات الأساسية