إقامة صلاة الجمعة في غير المسجد

السؤال: 
السؤال

بعض الطلبة المسلمين في بعض الدول الغربية يقيمون صلاة الجمعة في غرف مخصصة للصلاة في الجامعات أو مدارس اللغة أو التدريب، حيث هي ليست مسجدا بالمعنى المعروف، فهل تجوز إقامة صلاة الجمعة في مثل هذه الأماكن، أو في نحوها مما هو ليس بمسجد أصلا؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد إقامة الجمعة في الجامع: فلا تقام في الفضاء ، ولا تصح الجمعة إلا في جامع مبني بناء معتادا لأهل البلد. ومذهب أبي حنيفة أن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع ، أو في مصلى المصر نحو مصلى العيد، (عمدة القاري 6/198) . وقال النووي : (ولا يشترط إقامتها في مسجد ، ولكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط أن تكون داخلة في القرية أو البلدة ، معدودة من خططها ، فلو صلوها خارج البلد لا تصح بلا خلاف ، سواء كان بقرى البلد أو بعيد عنه) ، المجموع شرح المهذب 4/368 . وسئل الإمام أحمد عن جمع جُمعتين في مصر ، قال : لا أعلم أحدا فعله ، تلخيص الحبير 2/55 . ولا يشترط لصحة الجمعة عند الحنابلة إقامتها في البنيان ، قال ابن قدامة : (وتجوز إقامتها فيما قاربه من الصحراء) ، المغني 2/332 . وعليه فيتبين من العزو السابق أن اشتراط المصر لإقامة الجمعة مُختَلَف فيه ، وعدم تعددها في المصر الواحد ما أمكن يقول به الشافعي وأحمد والحنفية والمالكية ، وأن ما نسبه الشوكاني إلى سائر أهل العلم من أنهم لا يشترطون المسجد لإقامة الجمعة هكذا بإطلاق ، هو محل نظر ، حيث يتبادر منه أن كل جماعة اجتمعت ، يحل لها أن تقيم الجمعة في أي موضع كانت ، داخل البلد أو في الصحراء ، وهذا لا يقول به سائر العلماء كما يدعي الشوكاني ، فإن المالكية يشترطون المسجد ، كما تقدم النقل عنهم ، والأحناف والشافعية ، وإن قالوا بإقامتها في نحو مصلى العيد ، فإنهم يشترطون لها أن تقام في البلد ، وأنه لو أقيمت خارج البلد لا تصح بلا خلاف كما تقدم النقل عن النووي ، والحنابلة يقولون بجواز إقامتها فيما قارب البنيان من الصحراء ، والجميع لا يجيزون تعددها في أكثر من موضع بالمصر الواحد ، ولو داخل المساجد ، فلم يقل بصلاتها فيما بَعُد من البلد بالصحراء أحد ، ولم يقل بإقامتها فيما قرب من البلد بالصحراء سوى الحنابلة، انظر عمدة القاري 6/198 ، ونيل الأوطار 3/287 . واستدل من جوز الجمعة في كل مكان اجتمع فيه الناس في مصر أو قرية أو واد ، بما رواه محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة في المغازي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب من بني عمرو بن عوف في هجرته إلى المدينة ، مر على بني سالم ، وهي قرية بين قباء والمدينة ، فأدركته الجمعة ، فصلى بهم الجمعة وكانت أول جمعة صلاها حين قدم ، تلخيص الحبير 2/54 ، وبما أخرجه عبد الرزاق في المصنف عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في سفر، وخطب على قوس ، مصنف عبد الرزاق 3/169 . وفي صحيح ابن حبان أن أسعد بن زرارة أول من جمع الجمعة بالمدينة في حرة بني بياضة ، في نقيع يقال له الخضمات ، صحيح ابن حبان 15/477 ، وابن خزيمة حديث رقم 1724، وأبو داود حديث رقم 1069 ، والحاكم في المستدرك 1/281 ، 3/187 ، وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي . وروى سعيد بن منصور عن أبي هريرة " أن عمر " : (كتب إليهم أن اجمعوا حيثما كنتم) ، رواه ابن أبي شيبة 1/76 ، وصححه ابن خزيمة ، انظر نيل الأوطار 3/287 ، وقال ابن المنذر في الأوسط : روينا عن ابن عمر أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا يعيب عليهم ، أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح ، مصنف عبد الرزاق 6/170 ، ونيل الأوطار 3/287 . وروى البيهقي من طريق الوليد بن مسلم قال : سألت الليث بن سعد فقال : كل مدينة أو قرية فيها جماعة أمروا بالجمعة ، فإن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر وعثمان بأمرهما ، وفيهما رجال من الصحابة ، فتح الباري 2/380 . نقد الروايات والأقوال السابقة : يَرد على القائلين بأن الجمعة لا يشترط لإقامتها المسجد ، واستدلالهم بما خرجه أرباب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة في بني سالم بن عوف عند مَقدمه المدينة ، وذكروا أنه صلاها في بطن الوادي ـ يرد عليه أن هذا اللفظ ، وهو أنه صلاها بهم في بطن الوادي ، ورد في الروايات المرسلة للحديث من كتب السيرة ، أما الروايات التي أسندت الحديث ، فذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في مسجدهم ، واسمه مسجد عاتكة ، فقد أخرج ابن أبي شَبَّة في أخبار المدينة 1/68 ، قال : (حدثنا أبو غسان عن ابن أبي يحيى عن عبد الرحمن بن عتبان عن أبان بن عثمان عن كعب بن عجرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في أول جمعة حين قدم المدينة في مسجد بني سالم ، في مسجد عاتكة) وقال : (حدثنا أبو غسان قال حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن غير واحد ممن نثق به من أهل البلد أن أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل من قباء إلى المدينة في مسجد بني سالم الذي يقال له مسجد عاتكة) . وذكر الزيلعي ما روي من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي فقال : (رواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم، قال : أخبرني بعض قومي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين ... فأقام بقباء ... ثم خرج وقد اجتمع الناس فأدركته الصلاة في بني سالم فصلاها بمن معه في المسجد الذي ببطن الوادي ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة) ، تخريج الأحاديث والآثار 4/14 ، وعليه ، فلا يتم الاستدلال به على صحة إقامة الجمعة في غير المساجد . والأثر الذي رواه عبد الرزاق عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في سفر وخطب على قوس منقطع غير مسند . أما قول عمر : (اجمعوا حيثما كنتم) ، فيحتمل حيثما كنتم من البلاد ، ولكن في مصر ومسجد جامع ، ويحتمل حيثما كنتم في قرية أو مصر ، في مسجد أو غيره ، ويرجح الاحتمال الأول ما كتب به عمر إلى عماله أن يتخذوا مسجدا جامعا ، ومسجدا للقبائل ، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى المسجد الجامع ، تلخيص الحبير 2/55 . وما رواه البيهقي من أن ابن عمر كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمعون فلا ينكر عليهم ، فلعلهم كانوا يجمعون في مواضع اتخذوها مساجد لهم ، وهو يدل على أن ابن عمر كان مذهبه أنه يجمع خارج المصر ، إن ثبت إقراره لهم ، وما رواه الليث بن سعد من أن أهل مصر وسواحلها كانوا يجمعون على عهد عمر وعثمان بأمرهما ، يدل على عدم اشتراط المصر ، أما اشتراط المسجد فدلالته عليه محتملة . وبذلك يعلم أنه لم يثبت في خبر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة في غير مسجد ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : (وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) ، البخاري حديث رقم 631 ، فمن اشترط المسجد لإقامة الجمعة أقوى دليلا ، ويدل عدم تعدد مساجد الجمعة في المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على أن الجمعة تصلى في مسجد واحد في البلد ما أمكن ذلك ، لموافقته للغاية والحكمة من إقامتها ، وهو إقامة الجماعة الكبيرة لأهل البلد مرة في الأسبوع ، تعظيما لشعائر الدين على أكمل وجه ، ولما يحققه تجمعهم في مكان واحد من التواصل وتفقد أهل البلد لبعضهم ، وتعدُّدُها مناف لذلك ، فينبغي حده والتقليل منه إلا لضرورة ، كأن يضيق المسجد الجامع بأهله ، ولا تمكن توسعته ، إما لإحاطة البنيان به من كل جانب وجيرانه يأبون المثامنة بأملاكهم والمعاوضة عليها ، وإما لوجود فتنة بين الناس لا يمكن إخمادها إلا بإقامة مسجد آخر ، كما يقول المالكية . وعليه ، فلا تقام الجمعة في غير المساجد ، كبيوت الجامعة والمتنزهات والسجون داخل البلد إذا كان بالبلد مسجد ، لاتفاق الأئمة على عدم تعددها في المصر ما أمكن ، ولا تقام في الصحراء بعيدا عن البلد كحقول النفط بالاتفاق ، ولا قريبا منها عند غير الحنابلة ، فإن لم يكن هناك مسجد كما هو الحال في بعض المدن الأوروبية التي توجد بها جالية مسلمة مستوطنة ، وليس لديهم مسجد ـ فلو صلوا الجمعة في قاعة من قاعات البلد، أو صلى الطلبة في غرف الجامعة، لكان لفعلهم وجه تحتمله بعض الآثار السابقة، الواردة عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهم ، وموافق لبعض مذاهب أهل العلم ، والله تعالى أعلم . الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

تاريخ الإجابة 2007-11-21

شوهدت 11743 مرة

التبويبات الأساسية