الحوار وشقّ الصف

بسم الله الرحمن الرحيم
(الحوار وشقّ الصف
)

 

مازالت هناك حاجةٌ ملحة إلى التذكير بما علِمه الناس، وطرَق أسماعهم مرارًا، لكن لمَّا لم يُعطوه من العناية ما يستحق؛ حَسُن التكرير، من بابِ التذكير، والذِّكرَى تنفع المؤمنين.
النزاعُ والخلافُ بين الحريصين الغيورين، أمَارةُ خِذلان، وبالأخصِّ عندما يكون متعلقًا بمصالح عُليا للوطن؛ بالحرب والسلم.
لقد قَرَن اللهُ تعالى الخلافَ والنزاعَ في القرآنِ بالفشل، فقال تعالى: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، وقال عز وجل: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ). 
والنجاةُ دائمًا والخلاص والرشد، إنما هو في اتباع الشرع، فإنه الصراط المستقيم، والنهج القويم، (وإِنَّك لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُستقيمٍ صِرَاطِ الله الَّذي لَهُ ما في السَّمَوَاتِ ومَا في الأرضِ)، وأهلُ الحكمةِ والعقل والتدين، الوقَّافون عند أمر الله تعالى ونهيه، هم أولى مَن يحرصون على اتباع هذا السبيل وجمع الكلمة، والالتزام بأحكام الدين الحنيف. 
إن علماءَ الأمة قاطبة، اتفقوا على أنه لا يجوز لمسلم، أيًّا كان موقعه، أن يخطوَ خطوة أو يقدم على عمل، وإن كان صغيرًا، فضلا عما هو كبير يتعلق بمصير الأمة، حتى يعلم حكم الله فيه، ويتبيَّنَه من أهل العلم بالسؤال عنه؛ لقولِ الله تعالى: (فاسأَلُوا أَهلَ الذكرِ إن كُنْتُمْ لَا تَعلَمون).
لقد اتفقَ أهلُ الإسلام جميعًا، على وجوب السؤالِ قبل الإقدامِ على العمل؛ لقولِ الله تعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السلام: (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)، وسببُ قول وبي الله نوحلهذا، أنه سأل ربه أن يكونَ ابنُه معه في السفينة، قبلَ أن يعلم حكمَ الله تعالى في هذا السؤالِ، وهو أمر لأوّل وهلةٍ لا يبدو أنّ فيه ما يُلام أو يُعاتَب عليه، لكنّ الله تعالى عاتَبَه: (فلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
فإذا ما طبقنا هذه القاعدة، المتفق عليها بين علماء المسلمين، على ما يتعلق بالأطراف المشاركة في الحوار، فعلى كل مشارِكٍ أن يسأل نفسه هذا السؤال: هل يجوزُ له أن يشاركَ من تلقاء نفسه، في أمر يقررُ مصير وطنه دون الرجوع إلى ولاة أمره، أم يجبُ أن يردّه إليهم، ويتقيدَ بطاعتهم فيه، حتى لا يشقَّ الصفّ، ويضعفَ الحقّ، الذي يحرصُ هو عليه؟!

بعدَ حكم المحكمة العُليا بإلغاء البرلمان، صارَ ولي الأمر الشرعي الوحيد في ليبيا، هو المؤتمر الوطني العام، هو الذي تجبُ طاعته على كل الليبيين، دون استثناء، ما أطاعَ الله؛ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، وهو الذي يجبُ أن يكون له القول الفصل، والإبرام والنقض، والحلُّ والعقد، في الحرب والسلم، وفي سياسةِ البلد، وعلى رأسِها الحوارُ الوطنيّ والمشاركون فيه، فقد جعلَه المجتمع الدوليّ ما يجري في ليبيا أمرًا سياسيًّا، ولم يرضَوا فيه بحكم القانون.

فهل تجاهُل المؤتمر والانفراد عنه بالقرار في هذا الوقت العصيب هو نسخة معدلة من جماعة (لا للتمديد) التي ربما انخدع بها من انخدع ردحا من الزمان.

رأينا دعواتٍ للمشاركة في الحوار، من البعثةِ الأممية، هي أقرب إلى بث الفرقةِ وشقّ الصف، مِنها إلى جمعِ الكلمة وبلوغ الهدف. 
مشاركةٌ عشوائيةٌ، ليس لها معيارٌ ولا ضابطٌ، تعتمدُ تعميقَ الخلاف، وتفكيكَ المفكَّك، وتجزئَةَ المُجزَّأِ، وتقسيمَ المقسمِ في المناطق الليبية وبلداتها، كلّ يومٍ تُدعى إلى الوار مجموعةعلى حدة، تُهرعُ متسارعةً، زرافاتٍ ووِحدانًا إلى جنيف، الذي يبدو أنّه مستعدٌّ لاتخاذِ قرارات مصيريةٍ بما تيسرَ له، بغضِّ النظر عن العواقب.
تجاهلوا المؤتمر، على الرغم مِن جديته، وتعاوُنه مع المندوب الأُممي، وعقدِ لقاءات عديدة معه، آخرها لقاء المبعوث الأممي مع رئيس المؤتمر في تركيا، والتوافقُ معه - حسبما تم التصريح به - على آليةٍ واضحةٍ، فيما يتعلق بالمعيار الذي يتم به التمثيلُ في الحوارِ، وبالتوافق على نقلِه إلى ليبيا، ثم اجتمعت البعثة الأممية قبل الجولة الثانية، برئيس لجنة الحوار بالمؤتمر، وأبلغتْه أن الجولة الثانية في جنيف، ستقتصرُ على اتخاذ قرار بتحويل الحوار إلى ليبيا. 
فكانت المفاجأة؛ قرارات بالتوافق على تشكيلِ حكومةِ توافقٍ، وبمهامها، وبإخلاءِ المدنِ مِن المسلحين، وبالتلويحِ باستدعاءِ قواتٍ أممية؛ لفرضِ ما تقرر، وبتوعُّدٍ مبطن، بأنّ كلّ من لا يستجيب للإملاآت أعلاه، معرضٌ للعقوبات!
لقد تكررَ الآن الخُلف من البعثة الأممية، كم وعدتِ المؤتمر بأمرٍ وفاجأتْه بغيرِه، وكأنّها تفرحُ فقط بمن يلبّى الدعوة لرحلةٍ إلى جنيف، ولو لبضعةِ أيامٍ، بغض النظر عن النجاحِ من عدمه. 
فإذا كانَ الخُلف طبعَ البعثة الأممية، فما الذي يضمنُ التزامَها بنتائجِ الحوار، في نهاية المطافِ، حتى لو وصلَ إلى نتائج جادة؟!

والسؤالُ الذي يجب أن يوجَّه إلى كلّ مَن يعنيه نجاح الحوارِ؛ هل أخذتُم في اعتباركم من يخرجونَ من الليبيين رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا في الميادين، على مدَى ستة أشهر متواصلة، يُطالبون بالتمسك بالمؤتمر الوطني العام، وأنه الجسمُ الشرعي الوحيدُ الذي يمثلهم؟! وهل سألتم أنفسكم؛ كم هي النسبة التي يمثلُها المجتمعون في جنيف، من الشعب الليبي؟! أم هوَ كما يقول المثل: (ديروا عرسي وأني غائب!).

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
09 ربيع الآخر 1436 هـ
الموافق 29 يناير 2015

 

 

التبويبات الأساسية