كلمة المفتي في الملتقى العام لعلماء ليبيا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه.

الذي دعا إلى انعقاد هذا الملتقى ليساسترضاء لأحدٍ، ولا استعداءً على أحدٍ، وإنما - يعلمُ الله - هو حرصٌ حقيقيٌّ خالصٌ، على شبابنا وأبنائنا وبنانتا - الذين نحبّ لهم ما نحب لأنفسنا -ليرشدوا إلى الفهم الصحيح للتديّن، والفهمِ الصحيح للدّين، الذي بشَّرَ به محمدٌ صلى الله عليه وسلم العالمين، والقائلُ فيما صحّ عنه:(بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا)،والذي جاء عنه مِن طرقٍ:(يحملُ هذا العلمَ مِن كلِّ خَلَفٍعُدولُه، ينْفُونَ عنهُ تأويلَ الجاهلين، وانتِحالَ المُبْطِلين، وتحريفَ الغالِينَ)،والذي خاطبه ربّه في القرآن بقولِه:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، ووصفه بقوله:(ومَا أرسَلنَاكَ إلّا رَحمَةً للعَالمِينَ).

وقد حذّر القرآنُ مِن الغلوّ في الدين؛ فقالَ تعالى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)،وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صحّ عنه:(ياأيّها النّاسُ إيّاكُم والغلوَّ في الدّينِ فإنّما أهلَك مَن كانَ قَبلَكم الغلُوُّ في الدّين).

ومِن أخطَرِ وجوهِ الغلوّ في أيّامنا؛ الغلوُّ في التكفير، الذي تَقَحَّمه بعضُ صِغار طلبةِ العلم، دونَ معرفةٍ كافيةٍ بتنزيلِ مَناطَاتِ الأحكامِ على الواقِعِ، ولِذا قالُوا: أَجرَأُ الناسِ علَى التكفيرِ أكثرُهم جهلًا بِه.

ونصيحَتي لِمن يرتَقِي هذا المُرتَقى الصَّعب مِن طُلّاب العلمِ، أن يتَنبَّهَ إلى أمرينِ:

الأول؛ ما قالَه بعضُ أئِمة السلفِ، أنّ الفعلَ إذا كانَ له تسعةٌ وتسعونَ وجهًا تحتملُ الكفرَ، ووجهٌ واحدٌ يحتملُ الإيمانَ، فإنّه يُحمَل على الإيمانِ؛ لأنّ الأمّةَ لمّا أجمعَت على أنّ الحدودَ تُدْرَأُ بالشُّبُهات، كان دَرْءُ الكفرِ بالشبهةِ أَوْلى.

الأمرُ الثاني؛ أنْ يُدركوا أنّ رَمْيَ المسلمِ بالكفرِ قد يُحبِطُ عملَ قائلِه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:(أيُّما رجلٍ قال لأخِيهِ يا كافِرُ فقد باءَ بِها أحَدُهُما)،بمعنَى أنّ كلمةَ الكفرِ قد تَرجِعُ على قائِلِها، ومعلومٌ أنّ الكفرَ يُحبطُ العملَ.

كما دَعا إلى انعقادِ هذا الملتَقى أيضًا، حرصٌ على الوطنِ؛ لتُحفَظَ حُرمَتُه فلا تُنتَهَك، ويُصانَ أهلُه، وتُصانَ أرضُه،وحتى لا يُدمّرَ مِن أعدائِه تحتَ أيِّ ذريعةٍ، حقيقيّة كانت أو مُفتَعَلَة.

ليبيا - بحمدِ الله - كما تعلمونَ، مجتمعٌ مسلمٌ متجانسٌ، يسودُه في عمُومِه فكرٌ دينيٌّ معتدلٌ، يتكونُ مِن أغلبيةٍ يعتنقونَ المذهبَ المالكيَّ، وأقليةٍ تُمثّل المذهبَ الإباضي، مُتَعايشين منذُ مئات السنينِ، أحبةً مُتآلِفين.

وممّا لا يخفَى على أحدٍ، أنّ مِن أولويّاتِ ثوابتِ هذه الثورةِ المباركةِ، ثورةِ التكبيرِ، إقامةَ الدينِ، وتحكيمَ الشريعةِ الإسلاميةِ، والحفاظَ على سيادةِ الدولةِ، وعلى وحدةِ الوطن.

وتأكدَ الحرصُ علَى هذا المطلبِ مِن ثوابتِ الثورة -وهوَ تحكيمُ الشريعةِ- فيمَا صدرَ مؤخرًا، عن السيدِ رئيسِ المؤتمر، والسيدِ رئيس الحكومة.

كما لا يخفى على أحدٍ أيضًا، أنّ هناكَ فرقًا جوهريًّا واضحًا، بينَ تَحكيم شرعِ الله في حياتِنا، وحمْلِ دولتِنا عليهِ، ومساندَتِها وعونِها على ذلك - وهو مَا نحرصُ عليه، ويحرصُ عليه عمومُ أبناءِ الشعبِ الليبي - وبينَ أن نتبنّى الإسلامَ شِعارًا، ولا نعترفَ بمؤسساتِ الدولة، ولا ندعَمَها في الوصولِ إلى هذا الهدف!! 

الأول؛ وهو تحكيمُ الشريعة وإعانةُ الدولة عليه، واجبٌ مطلوبٌ شرعًا.

والثاني؛ وهو عدمُ الاعترافِ بمؤسساتِ الدولةِ، لا أظنّ أن أحدًا ناصحًا حريصًا يوافِقُ عليهِ.

أعداءُ الثورةِ لا يطيبُ لهمُ العيش، وهم يَرَونَ الثورةَ تنتصِرُ، والكلمةَ واحدة، والبلد يُمهّد للاستقرارِ، ويَنعَمُ أهلُه فيه بحكمِ الإسلام، لا يتردَّدون أبدًا، لإِفشالِ هذا الاستقرارِ، أن يتحالَفوا حتّى مع أعدائِهم، ولو كانُوا مِن توجُّهاتٍ إسلاميةٍ يكرهُونَها؛ لتسقُطَ الثورةُ الليبيةُ فيما سقطَت فيهِ دولٌ أخرَى، صُنفت بأنّها دولٌ فاشلةٌ، صارَ المسلمُ فيها لا يأمَن على نفسِه، ولا على مالِه، ولا على إقامةِشعائرِ دينه، فضلًا عن أن يملِك زِمامَ أمرِه.

لذا فإنني أهيبُ بأبنائنا وبناتِنا وشبابِنا، في كلِّ المدنِ الليبية، أن يتيقَّظوا، ويكونُوا حُراسًا، فلا يسمَحوا أن يَجرَّ أعداءُ الثورةِ ليبيا إلى حلبةِ الصراعِ، فتسقط الثورةُ الليبية فيما سقطَ فيه غيرُها، فلا تَنهض.

علينا - إن أردنا الإسلام حقًّا - أن نُطبّق أحكامَ الإسلام، دونَ أن نُحاربَ الإسلام مِن داخلِه، ونُسيئَ إليه، ونُنَفّر الناسَ منهُ بالغلوِّ في التكفيرِ والتضليلِوالعنفِ، ونصلَ بهم إلى حالةٍ مِن الخوفِ واليأسِ، يتمنّى فيها الواحدُ أن يحكُمه أيُّ حاكمٍ يحميهِ من الموتِ، ولو كانَ في طغيانِ حفتر،قبل أن نصلَ الى هذاالحالِ- لا قدَّر الله -على أهل العلمِ في بلادِنا، وعلى غيرِهم مِمّن يعنيهم الأمر، أن يتحمَّلوا مسؤولياتِهم؛ الدينيةَوالتاريخية، ويخرُجوا بخطابٍ واحدٍ واضحٍ، للشعبِ الليبي أوّلًا، ثمّ لكل مَن يُحاولُ أن يصطادَ في الماءِ العكر، خِطاب يضعُ الأمرَ في نصابِه، ويتبرأُ مِن كلِّ فكرٍ متطرفٍ، يستعملُ العنفَ، وينقلبُ على مؤسّساتِ الدولةِ، سواءٌ سمّى نفسَه إسلاميًّا أو يساريًّا، أو كانَ ما يُسمى الجيش الوطنيّ بقيادة حفتر، الذي انقلبَ على الدولة، ولا يزالُ يقاتلُ الشعبَ الليبي، ويسفكُ الدماء - للأسفِ -بعونٍ مِن حكوماتٍ عربيةٍ لا محدود، منذُ أشهرٍ عديدة، تحملُ معه كبرَ إثمِ ما يرتكبُه في بنغازي، ومع حلفائِه في الجبلِ الغربي في ككلةأبشعَ صور الإرهاب؛ لأجلِ أن تقسمَ ليبيا إلى شرقٍ وغرب، ويُمهد لحروبٍ أهليةٍ لا تنتهي، والملجأُ هو اللهُ ناصر المستضعفين، (ولَا تحسَبَنّ اللهَ غافلًا عمَّا يعمَلُ الظَّالِمونَ).

  ولا يفوتُني في هذا المقامِ، أن أُشيدَ ببيانِ شبابِ قبيلةِ(الزْويَّة) الأخير، على تمسكِهم بحكمِ الدائرة الدستورية، والتزامِهم بالحقِّ والنأيِ بأنفسِهم عن العصبية.

وأتمنّى مِن سائرِ قبائل أهلِنا في الشرقِ،القبائل العريقة التي نعتز بها، أن يحدُوا حدوَهم، فهذا موقفٌ للوطن لا يُنسى، ومواقفُ(الزوية) في الحفاظِ على وحدة ليبيا دائمًا مشرفةٌ، كما أُشيدُ أيضًا ببيانِ الثوارِ والمجتمع المدني في سبها ومدن الجنوب، وكذلك في الجفرةِ وهون، على تمسُّكهم بوحدةِ ليبيا، وردّهم الفاصل الحاسم، على دعوةِ بعض أعضاءِ برلمان طبرق للانضمامِ إليهم لتقسيمِ البلاد، فجزاهُم الله خيرًا، ولا يُستغرَبُ هذا الموقفُ مِن أهلِ الجنوبِ الكرام، فهم في عُمومِهم بركةُ ليبيا، وذلك لسلامَةِ الفطرةِ المتأصلةِ فيهم، ولصبرِهم ورِضاهم رغمَ تقصيرِ الحكوماتِ المتعاقبَةِ في حقِّهم.

وأخيرًا لي طلبٌ لدى رئيسِ المؤتمرِ الوطنيِّ العام ورئيس الحكومة، آملُ أن يُلَبَّى، وهو المسارعةُ بتأسيس ركنٍ جديدٍ مِن أركانِ الجيشِ الليبي، خاصٍّ بالثوار، ينضمُّ إليهِ الثوارُ، وضباطُ الجيشِ الشرفاء، يتمّ مِن خلالِه تدريبُ الثوارِ على الأعمالِ العسكريةِ، والضبطِ والربطِوالانضباط؛ لنبدأَ في بناءِ جيشٍ حقيقيٍّ، يحمِي الثورةَ ويحمي الديار، وبذلك نتخلصُ مِن أكذوبةِ الجيش الوطني المزعومِ، الذي دمّروا باسمِه مدينةَ بنغازي والجبلَ الغربي، ولا يزالُون يتوسعونَ في التدمير، واستهدافِ المدنيينَ داخلَ المدنِ والأحياء، وفي المطاراتِ، والعالمُ للأسف يصدقُهم، أو يغُضّ النظرَ عنهم، ويأبَى أن يعترفَ بحكم القانونِ، وهو مَن يُفترض أن يدعَم التحاكُم إلى القانون.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

2014-11-30

 

التبويبات الأساسية