بسم الله الرحمن الرحيم
تكلفة الحج لحجاج القرعة الليبيين هذا العام ما يقرب من خمسة آلاف ونصف للحاج الواحد، وهذا القدر وإن كان أقل من تكلفة حج العام الماضي التي بلغت سبعة آلاف ـ وهو رقم قياسي ـ فالخمسة آلاف ونصف هي أيضا لا تزال رقما عاليا إذا ما قورن بما يكلفه الحج في البلاد المجاورة، فعلي سبيل المثال تكلفة حج القرعة في تونس (3600 دينار)، وما يقارب ذلك في الجزائر وغيرها في البلاد المجاورة. ورفع التكلفة لا شك أنه يعيق كثيرا من الناس ممن أتيحت له الفرصة لأداء فريضة الحج، وهي قليلا ما تتاح بسبب كثرة الراغبين وتناقص النسبة المأذون بها وبقائها على حالها لكل بلد من البلاد الإسلامية. ومن المعلوم أن شرط وجوب الحج الاستطاعة لقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران آية 97)، إلا أن من يتولوا أمر تنظيم الحج ينبغي أن يدركوا أن الاستطاعة التي يتوقف عليها وجوب الحج صار تقديرها بأيديهم، فبناء على ما يحددونه من التكلفة يخرج ناس من الاستطاعة أو يدخلون فيها، وهذه مسؤولية دينية عظيمة تَحَمَّلوها في أعناقهم، وعدم مراعاتها على الوجه الصحيح هو من الصد عن سبيل الله، كما ينبغي ألا تفوتَهم فضيلة درجت عليها تقاليد البلاد الإسلامية من أمد بعيد، وهي عون الحجاج وخدمتهم وتجنيبهم العقبات والمعوقات، وكانت الدول إذا ما جاء وقت الحج تستنفر جهودها لركب الحجاج وإعانتهم والحفاوة بهم، وقد صار الأمر اليوم في بلادنا إلى الجهة المنظمة للحج بأمانة الشؤون الاجتماعية، فعليها أن تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: (سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا: اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ)، (رواه مسلم في الصحيح رقم 1828). وسبب ارتفاع تكاليف الحج التي يَئِنّ منها الليبيون في نظري يرجع إلى عدة أمور: 1 ـ رفع الدعم عن بعثة الحج، فقد كانت الدولة إلى أمد قريب تدعم بعثة الحج بميزانية من الخزينة العامة، وهذا الدعم فضيلة ومكرمة ينبغي العود إليها، ففيه الطاعة لله، وكما أن من مسئولياتها إقامة شعائر الإسلام التعبدية من بناء المساجد وعمارتها بالأئمة والدعاة والمصلحين وجمع الزكاة وتفريقها على المحتاجين ورفع الأذان وكلمة التوحيد، فإن عليها أيضا أن تعين الحجاج لعمارة بيت الله الحرام، فإنه من تعظيم شعائر الله (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج آية 32). 2 ـ التأجير للحجاج في الفنادق المحيطة بالحرم ذات التكلفة العالية، وهذا ليس من الحكمة، لما يترتب عليه من تصعيب الوصول إلى الاستطاعة التي يتطلبها الحج، فإن الاستطاعة الشرعية التي يكون الحج بها واجبا عند الفقهاء هي إمكان الوصول إلى مكة دون مشقة كبيرة مع الأمن على النفس والمال، فليست الاستطاعة أن ينزل الحاج في (أبراج البيت) أو (منازل الحرم) والحكمة تقتضي إسكان الحجاج في أماكن متوسطة الحال رفقا بهم، أو على الأقل أن يكون هناك مستويان: مستوى لأصحاب الأموال، ومستوى آخر لمتوسطي الحال من عامة الناس يكون أقل تكلفة منه، فإن الله تعالى يقول: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) (الطلاق آية 7). 3 ـ ما يُشاع بين الناس ـ وهذا لا أستطيع الجزم به ـ من أن نفقات البعثات الإدارية والطبية والاجتماعية وغيرها يتم تحميلها على الحجاج، فمن المعلوم أن الحجاج ترافقهم وفود إدارية وإعلامية وطبية، وهذه الوفود عادة ما تكون بأعداد كبيرة قد تصل إلى ألفين أو تزيد، فإذا حُمِّلت تكلفة حجها على حجاج القرعة لزادت عليهم التكاليف زيادة مرهقة، فلو افترضنا مثلا أن تكلفة الحج لهذا العام خمسة ملايين، وعدد حجاج القرعة عشرة آلاف، والوفود المرافقة ألفان أو ألفان ونصف، فلو قسمنا خمسة ملايين على عشرة آلاف لخرجت التكلفة خمسة آلاف للفرد الواحد، ولو قسمناها على العدد كاملا، اثني عشر ونصف لخرجت التكلفة أربعة آلاف، فعندما نطبق هذا المبدأ يكون كل حاج في هذا المثال قد أُخد منه ألف دينار زيادة دون رضاه ليحج به شخص آخر فُرض عليه، وهذا من أكل المال بالباطل والتعدي، فلو كان هذا الأمر يُطبق فعلا ـ كما يتوقعه الناس ـ لكان من الظلم الشديد الذي يجب التوقف عنه. 4 ـ مما قد يوقع الجهة المشرفة على الحج في سوء تقدير التكاليف ما تحاول أن تحتاط به، فقد تعودت أن يلتحق بها عدد من الحجاج الليبيين ينتظرونها في مكة متخلفين من عمرة رمضان، الوافدين بتأشيرات خاصة، ومن البعثات الليبية العاملة هناك، فكثير من هؤلاء ينضمون إلى بعثة الحج ويزاحمون الحجاج الأصليين الذين دفعوا المصاريف، بل أحيانا يسبقونهم ويستولون على أماكنهم ـ خصوصا في خيام منى ـ ويتركون أصحاب الحق الأصلي في الممرات والطرقات، وهو أمر شنيع، وقد تجدُ البعثةُ نفسها مرغمة بأن تحتاط في تأجير أماكن لمثل هؤلاء الوافدين، وذلك من شأنه أن يزيد ضِغْثا على إبالة، والطين بلة.
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني 23 شوال 1431 هـ الموافق 2 / 10 / 2010 |