مع مقال (الحُجة القاطعة في حكم المقاطعة)

بسم الله الرحمن الرحيم

مع مقال (الحُجة القاطعة في حكم المقاطعة)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وبعد

فقد دعوت في مقال سابق إلى مقاطعة المنتجات الأمريكية، لأن أمريكا هي والعدو الصهيوني في حربها على الفلسطينيين وعلى المسلمين عامة، شيء واحد، يُقتل أهل غزة بسلاحها، ويدمرون بصواريخها وقنابلها الجرثومية التي تجرب لأول مرة في أجساد الأبرياء من المدنيين والأطفال، في وحشية لا نظير لها، ويقصف العدو بطائراتها المروحية والمقاتلات دُور العبادة والمستشفيات، وتمد العدو بالسلاح مجانا حتى والمعركة قائمة تدور رحاها، ولاستخفاف أمريكا بالحكام العرب والمسلمين، وعدم مبالاتها بهم، ووثوقها بعجزهم حتى عن الاحتجاج عليها، فإنها تعلن هذا العدوان ولا تخفيه.

قلت ما دام الأمر كذلك، والحكومات لا تقدر أن تفعل شيئا، فإنه يتعين على كل مسلم أن يفعل ما في مقدوره لرد كيدهم عن المستضعفين، لقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، وهو خطاب وإن كان موجها توجيها أوليا لأولياء الأمور، فإنه بعمومه يشمل كل مسلم قادر، لم يستثن الوحي منه أحدا يقدر عليه.

والذي يقدر عليه كل مسلم من الأخذ بأسباب القوة المأمور بها في الآية، والتي تضعف العدو ولا تحتاج إلى قرار من حاكم ـ هو مقاطعة كل المنتجات الأمريكية والصهيونية، فإن ذلك بمقتضى هذه الآية متعين على كل أحد، ولا تبرأ ذمته منه حتى يندحر العدو، أو يلقى المسلم الله على ذلك.

عندما كتبت هذا، بعث إلي على موقع (التناصح) من اعترض على ما قلت اعتراضا شديدا، بمقال سماه: (الحُجة القاطعة في حكم المقاطعة)، وغلظ القول فيه على من قال بالمقاطعة، وقال: (فلتعلم رعاك الله بأن الإنسان محاسب على كل كلمة تخرج من فيه, لقوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ), وقد سمعت المسدد الموفق ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ يقول لأحد طلبته: إنك تملك الكلمة ما دامت في فيك, فإذا خرجت فهي تملكك).اهـ

وجملة حججه في (الحجة القاطعة) واعتراضاته تتلخص في الآتي:

إنني بالقول بمشروعية المقاطعة أتيت بدعا من القول، ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، فإن المقاطعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه، وقد كان المُقْتَضِي لها موجودا، وكل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضي فهو بدعة غير مشروعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :(ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه).

وأضاف صاحب (الحجة القاطعة) بما مفاده أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل خلاف ذلك، فإنه عامل اليهود وكانوا من أشد أعدائه، وقد دسوا له السم، ومات منهم مسموما، ومع ذلك اشترى منهم بالدين، وعاملهم، ومات ودرعه مرهونة عندهم، كما ثبت في صحيح البخاري، وقال: إن الذين ينادون بمقاطعة الغرب، وهم أهل كتاب، يقولون بمعاملة أهل الشرق، وهم مشركون، والكفر ملة واحدة، ويقول: إن القول بالمقاطعة يعني التعبد بترك مباح لم يشرع الله تعالى تركَه، والتعبد بترك المباح بدعة، كما ثبت في السنة، فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على من ترك النكاح، وأنكر على من امتنع من أكل اللحم زهدا وعبادة.

هذا مجمل ما اعترض به صاحب المقال.

ولقد عجبت من فهم هذا الكاتب، ومن مضمون ما ذهب إليه، وكنت من لغته وتراكيبه للجمل أعجبَ، فإنه في الوقت الذي يتكلم على الدليل، والاحتجاج بالكتاب والسنة، والاستنباط والتقعيد بـ (قيام المقتضي)، والوصف بالتبديع، والوعيد على من يتكلم بغير علم ولا دليل ولا يحاسب نفسه على ما يخرج من فيه، ويتوعده بالتنزيل، القائل (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) يوجد في كلامه من الجمل والتراكيب مثلُ قوله: (وقد كثر الحث من بعض الناس في السنون المتأخرة)، وقوله: (ولنا في قصة أبا بكر رضي الله عنه) وقوله: (ورغم أن الله أنزل فيه القرآن من فوق سبع سماوات تصديق).

وقوله: (وجعلوها دين ندين الله بها) وغير ذلك ـ ما يدل على أنه لم يضع قدمه بعد في سلم التعليم، فكيف بالاستنباط من الكتاب والسنة الذي يعني الاجتهاد المطلق في الدليل، هذا أمر عجيب !!!

رد الشبه التي تعلق بها:

دعوى أن المقاطعة ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعملها سلاحا عند الحاجة إليها، غير صحيحة، فقد دل على استعمال سلاح المقاطعة ضد العدو عدد من عمومات آيات القرآن ونصوص السنة، وإليك البيان.

أولا من القرآن:

1 ـ قال الله تعالى: ( وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا إِلا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ)، فإن معنى الآية: لا يصيبون العدو إصابة ترزؤه وتفقده ما يشق عليه فقده، إلا كانت أجرا وعملا صالحا لمن أصاب العدو بها، وقال تعالى في الآية: (نيلا) بالتنكير، ليعم كل ما يكون فيه على العدو نقص وإضعاف لقوته، مما لا يدخل تحت حصر، سواء كان ماديا اقتصاديا، أو عسكريا، أو معنويا، فإن ما يفعله المسلم من ذلك كله عبادة يُثاب عليها، ويكتب له بها عمل صالح بصريح الآية، وبذلك بطلت دعوى (أن جعل ترك المباح ـ وهو الشراء منهم ـ عبادة غير جائز، لأنه تشريع لما لم يأذن به الله، وتغيير لأحكامه) حسب ما جاء في كلامه.

2 ـ قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ): والإعداد في الآية هو الأخذ بأسباب القوة جميعها لرد كيد الأعداء، فإن الله قال (ما استطعتم)، وهذا يدخل تحته ـ بالعموم المستفاد من اسم الموصول ـ كل ما يقدر عليه الناس مما يُضعف العدو ويقوي جند المسلمين، ولا شك أن السلاح الذي يُعد للعدو قد تطور عما كان عليه وقت نزول القرآن، فالسلاح الاقتصادي اليوم والإعلامي، بالإضافة إلى السلاح القتالي المتطور، هو مما تُدار به المعارك في العصر الحديث، فيكون مأمورا به، والتهوين من شيء منه تهوين من أخذ العدة المأمور به نصا، والقول بالاقتصار في قتال العدو ورد كيده على السلاح الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم دون سواه، وهو صلى الله عليه وسلم لم يستعمل المقاطعة حسب قول الكاتب، يقتضي أن نقاتل العدو على ظهور الخيل بالسيوف، ولا يجوز غير ذلك، وهذا في غاية الفساد، فإن أنواع السلاح الذي استحدث اليوم بما فيه السلاح الاقتصادي، كله مأمور به، والنبيصلى الله عليه وسلم استعمل منه ما كان متاحا له في وقته، وكان له فاعلية آنذاك، ولم يمنع سواه، فلا يدل بحال على منع غيره، مما تثبت الأيام على العدو تأثيره وفتكه.

فإن قال قائل هذا غير لازم، لأن الله تعالى قال : (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، والطائرة والدبابة من القوة، يقال له: والمقاطعة أيضا من القوة، لأن قوة الدول الكبرى في غنائها وقوة اقتصادها، كما لا يخفى، فلا قوة مع الفقر وقلة المال.

ثانيا ـ دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل المقاطعة سلاحا على أعدائه، فلا تكون مشروعة، ولو كانت مشروعة لفعلها النبي * مع أعدائه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئا يقربكم إلى الله وقد أمرتكم به وما تركت شيئا يبعدكم ...)، فكل ما يظن الناس أن فيه مصلحة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضى لفعله فلا يكون مشروعا، فهذا غير صحيح، وذلك للآتي:

1 ـ ذكر القرآن قصة الثلاثة الذين تحلفوا عن جيش العسرة في غزوة تبوك من غير عذر، وأشار إلى ما أصابهم من الغم والهم والحزن بسبب عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وما كانت عقوبتهم ـ بالإضافة إلى تأجيل قبول عذرهم ـ إلا أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعا، بما فيهم نساؤهم وأهلوهم، أن يقاطعوهم مقاطعة كاملة، لا هوادة فيها، فنهاهم أن يكلموهم أو يبايعوهم أو يشاورهم، وصور القرآن ما أصابهم من آثار هذه المقاطعة بقوله: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْوَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ)، مما يشير إلى دلالة الآية على فاعلية المقاطعة إذا استعملت سلاحا للعقوبة على من يستحقها.

خرج البخاري ومسلم من حديث كعب بن مالك الطويل قال: (وَنَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَن كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِن بَيْنِ مَن تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ المُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ).

فهذا كعب بن مالك يطوف في الأسواق، فلا يكلمه أحد ولا يبايعه ولا يشاريه، وذلك كله بأمر النبي *.

2 ـ أقر النبي صلى الله عليه وسلم ما قام به الصحابي الجليل ثمامة بن أثال، عندما قال لقريش: (وَلا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِن اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)، وهو عين المقاطعة الاقتصادية التي أدرك هذا الصحابي أهميتها في إذلال وإضعاف أعداء النبي صلى الله عليه وسلم حينها، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة على الوفاء بما عاهد عليه الله، حتى أصاب قريشا الضراءُ، والتجئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه الرحم، فرفعها عنهم بعد أن حققت الهدف المرجو منها، بإذلالهم وتأديبهم حين جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم يستجدون ويسترحَمون.

والقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بما فعله ثُمامة ولم يُقرّه عليه غير صحيح، لسببين:

الأول: لأن المقاطعة تعلقت بأمر شديد الأثر على حاجات الجيران وذوي القربى في أقواتهم وضرورات حياتهم، واستمر أثره عليهم الوقت الطويل حتى ضعفوا وأصابهم الجهد، فالمقاطعة لم تكن حدثا عابرا بدأت وانتهت في يوم وليلة، دون أن يعلم بها أحد، بل طالت وامتدت حتى اكتوت قريش بنارها، وظهرت آثارها عليهم بالحاجة الشديدة والفاقة المضنية، الأمر الذي جعلهم يلتجئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليرفعها عنهم، ومثل هذا من الظهور والشهرة بين الناس بمكان لا يتصور إخفاؤه وعدم العلم به.

السبب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ثمامة ما فعله بقريش، ولو كانت المقاطعة غيرَ مشروعة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم بها حتى أخبرته قريش وسألته رفعها لأنكر عليه، أما رفعها عنهم حين التجئوا إليه، فليس فيه دليل على عدم مشروعيتها، بل لما حققته من أهدافها بإذلال قريش.

أما أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير، فلا يدل على جواز التعامل معهم إذا نقضوا العهد، فإن تعامله صلى الله عليه وسلمكان مع أهل خيبر، وكانوا أهل ذمة، وكانوا عمالا للمسلمين، أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على سقي نخل خيبر وزرعها بشطر ما يخرج منها، كما ثبت في صحيح السنة، أما الذين نقضوا العهود من اليهود فآذنهم بالحرب وحاصرهم حتى اضطرهم إلى الخروج وأجلاهم من ديارهم.

 وحصار النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه من اليهود ماذا يعني؟ ألا يعني قطع المدد عنهم بما في ذلك مبايعتهم والشراء منهم، أم أن الذي يرى عدم المقاطعة يفهم من حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع والنضير وبني قريظة أنه كان يبيعهم ويشتري منهم وهو يحاصرهم؟!

أما الاعتراض بالتفريق بين الكفار، بالدعوة إلى مقاطعة بعضهم دون بعض، والكفر ملة واحدة، فجوابه قول الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِيالدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰإِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

12 صفر 1430 هـ، الموافق 08 / 02 / 2009

 

التبويبات الأساسية