التخويف بالآيات

مقال جديد لفضيلة الشيخ الدكتور #الصادق_الغرياني

بسم الله الرحمن الرحيم
التخويف بالآيات

تألم المسلمون للطوفان المدمر الذي اجتاح إخوانهم بمدينة درنة وما حولها من مدن الجبل الأخضر في شرق ليبيا، وتألموا للأعداد الكبيرة من الضحايا والمصابين بسبب الزلزال الذي وقع في بلاد المغرب، ولما أصاب المسلمين قبله في تركيا الذي بلغ مصابهم فيه أكثر من سبعين ألفا بين قتيل وجريح، نسأل الله العظيم الجليل أن يرحمهم جميعا ويتقبلهم في الشهداء ويشفي جرحاهم، ويعوض ما ذهب من الممتلكات والأموال خيرا، وأن يتوب علينا ويرحمنا ولا يعذبنا.

وفي مثل هذه الكوارث هناك أمور لا يتحقق إيمان المسلم وصحة معتقده إلا بالتسليم بها، وهي كالآتي:

الأمر الأول:
الاعتقاد والتسليم بأن هذه الكوارث والمصائب كلها بإذن الله وأمره، كما قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه).
وأن ما يحدث منها آيات يرسلها الله أين ما شاء من ملكه في السموات والأرض، ومتى شاء من أوقاتهم وأزمانهم، بسبب يعرفونه وبغير سبب، قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار).

الأمر الثاني:
الواجب عند نزول الشدائد الاستغفار والدعاء والتوبة والندم، والخوف من الله والفزع إليه والاحتماء به، قال تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا)، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين أصيبوا في أحد أخبر الله عنهم بقوله: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).

الأمر الثالث:
الاعتبار بالكوارث والتخويف منها، قال الله تعالى: (وما نُرسل بالآيات إلا تخويفاً)، وليس للناس إذا نزلت بهم أن يغفُلوا عن خالقها ومرسِلها، فإن الله هو الذي نسبها إلى نفسه في كتابه، قال تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء)، وقال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا)، وقال تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما)، وقال تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي فلا تضطرب، إذا فما بالنا في دنيا الناس نرى من يجلس الساعات الطويلة في الفضائيات والمجالس يتكلم عن هذه الكوارث ويُغرقُوا في التفسيرات المادية والتفصيلات الجغرافية والجيولوجية، وفي الأسباب والتغيرات المناخية، وينسون الذي غيّرها وسبّبها فلا يذكرون الله إلا قليلا، ولا يكاد الواحد منهم ينسب إلى الله من ذلك شيئا!

الأمر الرابع:
الخوف والاستشعار بأن ما أصاب الناس من كوارث قد يكون عذاباً وغضبا من الله للفساد الذي أحدثوه في الأرض، من مثل ظلم الضعفاء، وجور الحكام، ونهب الأموال، وسفك الدماء، قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)، والتذكير بأن ما حدث إنما هو للتنبيه من الغفلة والاعتبار، ليتوب العاصي، ويتدبر الغافل، كَانَتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إذَا هَبَّتْ أصاب النبي صلى الله عليه وسلم الفزع، وعُرِفَ ذلكَ في وجْهِه، وخاف أن تكون ريح عذاب، وكان عمر رضي الله عنه إذا حدث الجدب يأمر الناس بالصلاة والتوبة ويقول: (فإنه لا ينزل عذاب إلا بمعصية، ولايُرفع إلا بتوبة).

الأمر الخامس:
جعل الله هذه الحياة تسير وفق أسباب ونواميس منضبطة، وضعها في الأرض لتكون قوانين يحصل من خلالها التنافس لبلوغ الغايات الكبيرة، ويظهر فضل من أخذ بها بقوة وجد، على أصحاب الجهالة والبطالة، ومطلوب من الناس الاجتهاد في تعلم الأسباب ليستفيدوا من معرفتها في التوقي وأخذ الأُهبة، وإصلاح ما يمكن إصلاحه في حفظ الأرواح وصون الممتلكات، ولكن الله لم يتفضل علينا بتعليمنا الأسباب لأجل أن ننسى صُنعه وتدبيره وخلقه، فننسب الأمر كله لغيره، فتلك غفلة وفتنة!

الأمر السادس:
الأسباب تؤدي إلى مسبَّباتها بحسب العادة، لكن بإرادة الله ومشيئته، فإذا ما أراد تعطيلها عطلها، وإلا فمن الذي جعل السحاب يتكون في بلد ويُمطر في آخر؟
ومن الذي جعل مركز الزلزال الذي وقع في بلاد المغرب يقع في منطقة الحوز دون غيرها مما حاداها أو جاورها من المنطقة الواقعة معها في حزام الزلازل؟
ومن الذي جعل الإعصار يقع في المنطقة الشرقية من ليبيا دون أبعدَ منها أو أدنى؟
ومن الذي سلب إحراق النار فجعلها برداً وسلاماً على إبراهيم؟

فاعل ذلك كله هو الله وحده مسبب الأسباب، الذي له السماوات والأرض وما فيهن خَلقاً ومُلكاً، يتصرف في ملكه كما يشاء، فلا يغترّ الإنسان بما أُوتِيَه من العلم القليل، قال تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)، ولا يظن أنه يتحكم بهذا العلم القليل الذي أوتيَه في منع ما أراد الله إحداثه من الأمور العظام، ليعتبر بها أهل الإيمان، فذلك الظن والاغترار مع الغفلة وعدمِ إرجاع الأمر إلى الله نذير شؤمٍ ووبال، قال تعالى: (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون).

الأمر السابع:
من هلك من الناس عند حدوث الكوارث ليسوا كلهم سواء، بل يحشرون على نياتهم وما ماتوا عليه في الدنيا، فمنهم من ينال الشهادة ومنهم غير ذلك، وقد بينهم وفصلهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أتم تفصيل، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّه يُسْتَعْمَلُ علَيْكُم أُمَراءُ، فَتَعْرِفُونَ وتُنْكِرُونَ، فمَن كَرِهَ فقَدْ بَرِئَ، ومَن أنْكَرَ فقَدْ سَلِمَ، ولَكِنْ مَن رَضِيَ وتابَعَ).
أي سيكون عليكم حكام ترون منهم أشياء منكرة، ترون منهم الظلم والجَوْر، وحرمان الضعفاء، وترون أصحاب العروش ينهبون الأموال، وترون استحلال الربا واستحلال ما حرمه الله من محكمات الدين، كالخمر والفجور وسفك الدماء.
فمن كان في حياته كارها بقلبه لهذه المظالم والخبائث لا يقبلها، فقد برئ مما فعله الظالمون.
ومن كان في حياته ممن يعلن ويجاهر بإنكار ما ذكر ولا يسكت عن المنكر، لقي الله سالما، وقد تكتب له ولمن قبله الشهادة.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن من رضي وتابع)، أي من رضي بالفساد، وظلم الحكام، ونهب الأموال، وتحليل الحرام، فهؤلاء بعد أن حُذِّروا وخُوّفوا إذا انحازوا إلى الظُلّام وساندوهم ومجّدوهم نفاقا وطمعا، أو حمية وعصبية، بعدما تبيّن لهم فسادُهم، وخُوّفوا بالنُّذُر وبالآيات، ورضوا وتابعوا، فلا يلومون إلا أنفسهم، وهم ممن قال الله في أمثالهم: (ونخوّفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا)!

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

14 ربيع الأول 1445 هـ
الموافق 29 - 09 - 2023

التبويبات الأساسية