السكوت عن المنكر

  بِسْم الله الرحمن الرحيم

 

مِما استحق به بنو إسرائيل اللعن والطرد من رحمة الله تبارك وتعالى أنهم (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

وطردُهم من رحمة الله لسكوتهم عن المنكر يُبيّن أهميةَ هذهِ الفريضةِ الغائبة، وأنّها إذا أُهمِلت كانتْ نذيرَ شؤمٍ، وعلامةَ هلاك الأمةِ، والأقبح مِن إهمالِ هذه الفريضةِ بالكلية، أنْ تُستعملَ استعمالَ المصانعة والرياء؛ الذي يُوَطِّد أركان الظلم ويثبت عروشه، وهو الذي كانَ مِن علماء بنِي إسرائيلَ، فاستحقّوا به ما استحقّوا مِن غضبِ الله.

جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِن طرقٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَلْقَى الرَّجُلَ إِذَا رَآهُ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: يَا هَذَا! اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَخَلِيطَهُ وَشَرِيكَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ على لِسَان دَاوُود وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ثُمَّ قَرَأَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ لَيَلْعَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ".

هذا ما جرَّهُ علماءُ بنِي إسرائيل على قومِهم فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وفِي حكمِهم بالأولى مَن يناصرُ الحكام الظلمة المُسْتَقوين بالأجنبي وينحاز إليهم، فيقاتلُ معهم، ويحاصر المستضعفينَ مِن المسلمين في ديارِهم، يمنع عنهم ضروراتِ الحياةَ، أو يدافعُ عن الظلمةِ والقتلةِ، أو يسكت عنهم، ويَخْذُل المُعْتَدى عليهم المستضعفين من إخوانه بفتاوى دليلُها الهوى وإرضاءِ السلاطين، تُسَمِّي من تحالف مع أعداء الله، وائتمر بأمرهم، وأوغل معهم في دماء الأبرياء، ولاة أمر تجب طاعتهم حتى في المعصية، وتعظمهم، وتفخمُ ألقابَهم، مع عداءهم لشرع الله في السر والعلن!

وفي حكمِ ما فعلَه بنو إسرائيل، ما يفعله صنف آخر ممن ينتسب إلى العلم من التطلع إلى ما بأيدِي الحكامِ الظلمة وأعوانِهم، فيفرح منهم بالوعودِ، وعود بالجاه والنفوذ، وما يُلقونَهُ مِن الفتات، يطوّقونَ به الأعناقَ للسكوتِ عنهم، أو لمُصانَعتِهم إذا جلَسوا إليهم، حيثُ يتظاهرُ الواحدُ منهم بالنّصحِ للظلمة من الحكام ، والحرصِ على آخرتِهم، فيأمرُ وينهَى، وهو غارقٌ في دُنياهم، أو طامعٌ في عَطاياهم، فالنهيُ الذي يكونُ على هذا النحوِ مِن المُصانَعة وتَبادلِ الرّيع، هوَ مِن نوع النهيِ عن المنكر الذي استحقَّ به اليهودُ ما نزلَ بهمْ!
ومثلُه لا يُقلقُ الظّلمةَ مِن الحكامِ، بَل يرتاحونَ إليهِ؛ لأنّهم يُلبّسونَ به على العامّةِ، ويتباهونَ به أمامَ شعوبِهم، فيُظهرُهم بمظهرِ مَن يُقرّب العلماءَ ويأتمرُ بأمرِهم، ولا يَجرأُ الواحدُ مِن هؤلاء (الناصحين) أنْ يقولَ للحاكمِ فيما بينَه وبينَه ما يُغضبُهُ، بل ربّما زيّنَ له سوءَ عملِهِ، فهذا نهي، يُرضِي الظالمينَ، ولا يُرضِي ربّ العالمينَ.

ونسبتِ الآيةُ تركَ النهيِ عنِ المنكر - الذي استحقّ اليهود بهِ العذابَ - لجميعِ بني إسرائيل؛ لأنّ القادرينَ عليه تركوهُ، والباقينَ سكتُوا عنه، فكانُوا جميعًا ملعونينَ، وهو ما ينذر بالعاقبة الوخيمة على السكوت عن المنكر؛ لأنّ المنكرَ عادةً يبدؤهُ أفرادٌ قليلون ، فإذا ما تهاونَ الناسُ وسكتوا عنهم، جرَّأَ التهاونُ المجرمينَ على التمادِي عليه، وجرَّ غيرَهم إليهم وشجّعَهم، فيستفحلُ أمرُه، ويعمُّ شره، ويصيرُ بالسكوتِ عنه مألوفًا، فلا يُرجَى الرجوعُ والإقلاعُ عنه، ولا يُقدَر عليه إلا بكلفةٍ باهظةٍ؛ عقابٌ جماعيٌّ، يُنغصُ حياة الجميع، ويدفعون ثمنه.

وعقوبةُ الله تعالى على التهاون في دفع المنكر أو السكوت عنه تتفاوت بتفاوت المراتب والمسؤولياتِ؛ فإثمُ مَن يقفُ إلى جانبِ المنكر ويعينُ أهلَه ويناصرُهم، كمَن يتستر على من يأوي قطاع الطرق مثلا ليفروا من العدالة، أو يُطلقُ سراحَ الظلمة والمجرمين مِن السجونِ، ليعودُوا لسابقِ إجرامِهم باسمِ المُصالحات المغشوشة، التي نراها تُمكن للظالمين مرة أخرى من دماء الأبرياء أشد من ذي قبل - من يفعل ذلك هو والظالم سواء، ينوبُه ما ينوبُهُ.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (...ومَن دَعَا إلى ضلالةٍ كانَ عليهِ مِن الوِزْرِ مثلُ أوزارِ مَن دعاهُ، لا ينقصُ مِن أوزارهِم شيء).

وكذلك إثم الساكت على المنكر، يتفاوتُ بتفاوتِ درجته ومسؤوليته؛ فسكوت مَن له رئاسة، أو له نفوذٌ في إدارة أو رقابة أو مجالسَ اختارَها الناسُ، بلديةً كانت أو اجتماعية أهلية، مِن الأعيانِ والحكماءِ، أو غيرِهم من العلماء والدعاة، هؤلاءِ جميعًا سكوتُهم أعظمُ إثمًا مِن الساكتِ مِن عامةِ الناسِ؛ لأنّ ضررَ سكوتِهم أشدُّ على الأمةِ، ولأنّ الجزاءَ يتفاوتُ بتفاوتِ الأثرِ عن الفعل أو الترك، خيرا أو شرا، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه).

وقد خُتمت آيةُ بني إسرائيل في السكوت عن المنكر بقوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، فاللام للقسم، وبئس من أفعال الذم، وقَسَمُ الله تعالى على ذمهم وهو في عظمته وجلاله لا يحتاج أن يقسم، يدل على أن فعلهم بلغ الغاية في القبح.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
27 ربيع الأول 1438 هـ
26 ديسمبر 2016 م

التبويبات الأساسية