الشيخ (محمد بن عبد القادر) رفيقُ الدراسةِ

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ (محمد بن عبد القادر) رفيقُ الدراسةِ

 

فقدَتْ دارُ الإفتاء، وفقدَتْ تاجوراء وليبيا، بمزيدِ الحزنِ، عَلَمًا مِن أعلامِ الفقه المالكي، ورمزًا مِن رموزهِ في بلادِنا، هو الشيخ محمد بن علي بن عبد القادر، شهدَ للفقيد رحمه الله كل مَن عرفَهُ؛ بجودةِ النظرِ، وسدادِ الفهمِ، وصحيحِ الفقهِ.

وقبضُ العلماءِ ثُلمةٌ في الدين، ومصيبةٌ على المسلمين؛ لأنّ قبضَهم مِن قبضِ العلم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا).

وُلد الشيخ محمد رحمه الله عام 1361 هـ 1942 م، وبعد أن حفظ القرآن تلقى تعليمَه في المرحلةِ الأولَى في حلقة العم، العالم الفقيه الشيخ محمد بن الشيخ علي الغرياني رحمهما الله بزاوية (أبو راوي) ثم تابعَ تعليمَه بمعهد أحمد باشا الديني، حين أسس الملكُ إدريس رحمهُ الله التعليم الديني في ليبيا، وأصدر أمرًا ملكيًّا بإنشاءِ جامعةِ محمد بن علي السنوسيّ الإسلامية، وضمّت إليها الطلابَ الدارسين بنظام الحِلَق في كلٍّ مِن مدرسةِ جامعِ الباشا، والأسمرية، وزاوية محمد بن علي السنوسي بالبيضاء.

كنتُ والشيخ محمد رحمه الله في مجموعة واحدة في نظام الحِلَق بجامع الباشا، وأول ما أنشئ معهد أحمد باشا عام 1957 م، انضم إليه كل الطلاب الذين كانوا يدرسون في الحِلَق، وكان نظامُ التعليمِ في المعاهد الدينية في ذلك الوقتِ أربعَ سنواتٍ للمرحلةِ الابتدائية، وخمسَ سنواتٍ للمرحلة الثانوية.

كان الشيخ محمد معروفا بالذكاء وجودة الفهم، وكان منذ السنين الأولى بالمعهد له تعلق وعناية بعلم الفقه والفرائض، وانتقلنَا سويًّا مِن المعهدِ إلى كليةِ الشريعةِ بالبيضاء، وتخرجنا فيها عام 1969م.

تعيَّنَ الشيخ محمد في التدريس، درس في التعليم العام، وفي المعاهد الدينية، وعندما قفلت المعاهد الدينية أبوابها وحوربت في عهد القذافي انتقل الشيخ إلى الوعظ والتدريس في المساجد، مع هيئة الأوقاف، وليس هو في الحقيقة جديدا على الوعظ بالمساجد إلا من الناحية الوظيفية الرسمية، وإلا فدروسه في الوعظ بدأت قبل ذلك بكثير، منذ ستين عاما تقريبا، حين كنا بالمرحلة الابتدائية بالمعهد، وكانت الجامعة الإسلامية تُكَلّف جميع الطلاب بالمعاهد بإلقاء الدروس في شهر رمضان، بمكافأة قدرها جنيه واحد، وكانت مكافأة مجزية حينها، حيث كان المدرس الخريج صاحب الأسرة يتقاضى في ذلك الوقت نحوا من عشرة جنيهات بالشهر!

وكان للشيخ نشاط علمي ودورات تطوعية يُقبل عليها طلاب العلم إقبالا كبيرا، وبخاصة في علم الفقه والفرائض، فقد كان مرجعا، له منزلة لدى طلاب العلم والعامة على السواء، يقصدونه للفتوى والنصيحة وحل النزاع والخصومات.

وكانت له حلقة في مسجد الطشاني لسنين طويلة مع إخوانه من المشايخ، ويحضرها الطلاب، تدارسوا فيها بعض الكتب الحديثية في الفقه المقارن، كشرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد، ونيل الأوطار للشوكاني، والتمهيد لابن عبد البر وغيرها.

كان رحمه الله معروفا بالجد والصرامة في الاعتناء بوقته وأسرته، مع سرعة بديهة ودعابة تأتي على لسانه في مجالسه دون تكلف، له تسعة من البنين، أكثرهم حافظ للقرآن يصلي به التراويح، (نفعه الله ونفعهم بالقرآن)، كان صبورا، حذرا، آخذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَه) أي حاسبها.

ولعله كان متأثرا في حزمه وصبره وصرامته - أو إن شئت فقل في شدته على نفسه - بعمه صديقنا وصديق العائلة، الشيخ مختار بن عبد القادر رحمه الله، فقد كان كثيرا ما ينقل في مجالسه شيئا من سيرة عمه في هذا الباب.

وبعد أن أُعيدتْ دارُ الإفتاءِ بعد الثورة انضمّ إليها، واستفادَت منهُ استفادةً كبيرةً، فكانَ نعمَ العونُ، وخيرَ سندٍ، وكانَ – على كبر سنِّه - ينجزُ وحدَهُ من العملِ ما لا ينجزُهُ الشبابُ، فجزاهُ اللهُ خيرًا عنِ المسلمينَ، وأثابهُ.

ولابد من التنويه بأن الشيخ رحمه الله هو ثمرة من قطاف صرح التعليم الديني، الذي أسسه الملك إدريس رحمة الله عليه، وأنفق عليه إنفاقا سخيا، وأولاه عناية كبيرة، ورفع من شأنه، وفرض على الدولة احترامه واحترام المنتسبين إليه، فكانَ شيخُ الجامعة الإسلامية مقدَّمًا في ديوانِ الملكِ على رئيسِ الحكومةِ، تعظيما للشرع، وتقديرا لحرمة من ينتسب إلى الدين.

وقد خرّجت الجامعة الإسلامية خيرة العلماء في كلِّ فنٍّ؛ من علومِ اللغة والشريعة، وكانَ التعليم الديني حصنا منيعًا، حفظَ البلادَ مِن الغلوِّ والتطرفِ، والأفكارِ المنحرفةِ، فلا تكاد تجدُ في شيوخِ الجامعةِ الإسلاميةِ ولا طلابها غاليًا، ولا متشددًا، وخَرَّج عشراتٍ من العلماء حملوا الرسالة طول عقود التصحر الذي عانت منه البلد في التعليم الديني، فأي خيرٍ قَدَّمه الملكُ رحمه الله للبلدِ، وأيّ حسنةٍ أحسنَ بها إلى ليبيا، ذهب الأشخاصُ، وحفظ التاريخُ للملك هذا الفضل على البلد!

قارن هذا معَ ما نحن فيه اليومَ، حيث بدأت المساعي على قدم وساق للعودة بنا إلى التصحر، هذه السنةُ عَطّلت وزارةُ التعليم سنة أولى إعدادي بالتعليم الديني، ومنعت الطلاب من التسجيل!

في التاريخ عِبَر! ذَهَبَ مَنْ ذَهب! التاريخُ لا يَغفَل ولا يُجامل! ويقول للناس بلسان فصيح: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فيبقي الذكر الحسن لمن أحسن، ويبقى الذكر السيء، فمن شاء فليُقلّ، ومن شاء فليُكثر، قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ).

رحم الله الشيخ محمد بن عبد القادر رحمة واسعة، وعوضنا فيه خيرا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
22 ربيع الأول 1440 هـ
الموافق 30 نوفمبر 2018

التبويبات الأساسية