الدكتور صالح نغموش، الذي أحبّه الناس.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور صالح نغموش، الذي أحبّه الناس.
فقدَتْ تاجوراء وفقدت ليبيا يوم أمس، بمزيدِ الحزنِ، طبيبًا متميزًا، وأستاذًا مِن أعلامِ الجراحة في بلادِنا، وُلد الدكتور صالح محمد نغموش في تاجوراء 1952 ميلادية، وكان مفخرةً لكلية الطبّ في ليبيا، التي تخرج في أوائل دفعاتها بعدَ تأسيسِها، وأكمل دراسته للزمالةِ في بريطانيا.
إذا سألتني: لماذا أحبّهُ الناس؟
قلت لك باختصار: لأنه كان للطبيبِ في ليبيا مثالًا يُحتدى، وأمثاله قليلٌ!
شهدَ للفقيدِ رحمه الله كلّ مَن عرفَهُ؛ بالتواضع وحسن الخلق، والحذق في المهنة، والأمانة والصدقِ والنصحِ، وتقديم الخدمة المجانيةِ لكل مَن يقصده من المرضى، دونَ تمييز؛ مَن عَرف ومن لم يَعرفْ!
كانَ لزملائه في تخصصهِ مرجعًا، ولطلابه وتلامذته معطاءً ناصحًا.
وطلابُه في قسم الجراحة وكلية الطبّ يعتني بهم ويرعاهم، فمَن تولى رعايتهم وتدريبهم في قسمِ الجراحة، لم ينقل إليهم خبرته ومهارته فحسب، ولكن - وهو الحلقة المفقودة في أهل هذا التخصص - أنه ورثهم النصحَ والصدقَ والتواضع، ودماثةَ الخلق، والبذلَ، فكان طبيبًا مربيًا!
وقد لاحظنَا هذا الأثرَ الجميل الحسن في بعض مَن درّبهم ولازموه، فمنهم مَن يتولى العمل في الأماكن الأكثر خدمةً للناس، ولو كانت شاقةً مضنيةً، والقائم على مستوصف تاجوراء هذه الأيام - في زحمة الإصاباتِ بكورونا - الدكتور محمد ماطوس مثالٌ لذلك، ثبتَ اللهُ أجرهُ وأجرَ أستاذهِ، وغفرَ لوالديهما.
كان مبدأُ الدكتور صالح في المهنةِ وشعارهُ: الأقربونَ أولى بالمعروف، الذي هو في معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة عن صدقته: (اجْعلها في قرابَتكَ)، وقوله لمن سأله بمن يبدأ في العطاء: (أمّكَ وأباكَ، وأختكَ وأخاك، ثمّ أدناكَ فأدناكَ)، وفي معنَى ذلكَ قولُ الله تعالى: (وبِالوالدينِ إحْسانًا وبذِي القربَى واليتامَى والمساكينِ والجارِ ذي القربَى والجارِ الجنُبِ والصاحبِ بالجنبِ وابنِ السّبيلِ).
على هذا المبدأِ، وقّفَ الدكتور صالح حياتهُ خالصةً وافيةً، فلم يجعلْ منها شيئًا للهجرة؛ يكوّن فيه نفسهُ ماليًّا كما يقال، ثمّ يعودُ بما فضلَ من خبرتهِ للوطن، بل جعل الدكتورُ صالح خبرتَه كلّها لوطنه، فلم يجعلها حيثُ المرتباتُ العالية والحياةُ المرفهة، والمزايا التي ترغبها النفس، وتشتد رغبةُ الأسرةِ والأولاد عليها كذلك، ولا يقدر على مقاومة الرغبتين بالبقاءِ في الوطنِ إلّا حازمٌ!
ولو أرادَ الدكتور صالح الهجرة وبيع خبرته؛ لوجدَ لها طالبًا أينما يمَّم وجههُ، أوروبا أو دول الخليج، لكنه آثرَ أنْ يكونَ أستاذًا في كلية الطبّ بطرابلسَ، وطبيبًا في مستشفى شارع الزاوية العام، يداوي ويعلم ويربي؛ لأنّ تقديم الخدمةِ في المستشفى العام، في بلدٍ لا يجدُ فيها المريضُ مَن يأخذُ بيده، لا يساويه أجرٌ مِن عَرَض الدنيا!
ولأنها خدمة تُقَدمُ لمَن هم أحقّ بالرعاية شرعًا وطبعًا، فهذا إيثارٌ، والإيثارُ صدقةٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحبها: (اجعلْها في الأقربينَ).
فإيثار البقاءِ في البلد لخدمةِ المحتاجينَ من أهلها، وتركُ الأجرِ الوفير من المالِ في البلاد الأخرى، بذلٌ للأموال، فهو صدقةٌ جاريةٌ باقيةٌ لا تنقطعُ، في بلدٍ قلَّ فيها المعين!
(إنّا نحْنُ نحْيي الموتَى ونكتبُ ما قدَّمُوا و آثارَهم) فمَن شاءَ فليُقلّ، ومَن شاءَ فليكثر!
وحين أرادَ الدكتور صالح أن يعطيَ بعضَ وقته للعيادة؛ اختار تاجوراء لعيادته، مع أنّ العيادة في طرابلس أكثرُ رواجًا؛ وتركها لأنّ ذوي القربى - مرة أخرى - أولى بالمعروف!
وكان في عيادتهِ مثالًا للناصحِ الأمينِ، فإذا ما أتاهُ في العيادة فقيرٌ عَلِمَ حاجته، ولا يقدر على شراءِ الدواء، أخرج وصفةَ المستشفى التي في العادة لا تفارقهُ، وكتبَ له عليها الدواء، لا على وصفةِ العيادة، وقال له: تعالَ إليّ بالمستشفى للمتابعةِ لا في العيادة، ثم خرجَ معه إلى الاستقبال، وطلبَ منهم أنْ يُرجعُوا له أجرة الكشفِ.
كان بيننا وبينَ الدكتور صالح تقديرٌ خاصّ ومعزة، فكانَ يتفقدُ الوالدَ والوالدةَ طوالَ سنيِّ مرضهما المزمنِ، ويزورُهما في البيتِ لمتابعةِ العلاج، أحيانًا حتى مِن غير أنْ يُطلبَ منه ذلكَ، فجزاهُ اللهُ خيرًا، ورفع درجته في علّيينَ، وأعقبَه في خلفهِ خيرًا في الغابرينَ.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
18 جمادى الأولى 1442 هـ
الموافق 02 يناير 2021 م

التبويبات الأساسية