وقفة مع قوله تعالى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)

بسم الله الرحمن الرحيم
 
وقفة مع قوله تعالى
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)
هذه الآية حذرت من أمر عظيم وداء عضال، يهدد المجتمعات، ويخرب الديار، ويفرق الأمة، ويذهب ريحها، ويسقط الدول، وهو قطع وفصل كلِّ مَا أمرَ الله تعالَى بِوصْلِهِ، وأنواعه كثيرة، كقطعِ الرحِم، وإفسادِ ذاتِ البينِ، ومن أخطره ما ابتلي به المسلمون في أيامنا من فصل القولِ عن العملِ، بأن يقولَ المسلمُ قولًا ويفعلَ غيرَه، فهو مِن قطع ما أمر الله به أن يوصل، وقد عمَّت بهِ البلْوَى في الناس؛ حكوماتٍ وشُعوبًا، يتكلّمونَ كثيرًا، ولا يعملونَ إلّا قليلًا، فضعُفتْ دولَتُهم، ووَهَنَ أمرُهُم، وصارُوا عبيدًا أتباعًا، بعدَ أن كانُوا سادةً متبوعِين، وعَكَسَ أعداؤُهم؛ فقرنوا القولَ بالعملِ، أقلُّوا الكلامَ وأكثرُوا العملَ؛ كمَا كانَ عليه حالُ المسلمينَ في عهدِهم الأولِ، خُطَبُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كلماتٌ قليلاتٌ، لو شاءَ العَادُّ أن يَعُدَّهنّ لَعَدَّهُنّ، كلها جوامع كلم، لكن حياته وحياة أصحابه جهاد وفتح وعمل دؤوب.
ولمّا خالفْنا ما كان عليه سلفنا تصدَّرَ أعداؤُنا، وصارُوا اليومَ هم المتبوعينَ، وغيرُهم الأَتْباع، وفي الميثاقِ الذِي بينَ أيدِي المسلمينَ، موصولا بربِّهم وهو القرآن، يخُصّهُم فيه بالخطابِ دونَ غيرِهم بقوله: ﴿یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ‌لِمَ ‌تَقُولُونَ ‌مَا ‌لَا تَفۡعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾
ومِن نَقْضِ العهدِ، وقطعِ ما أمرَ اللهُ تعالَى بهِ أنْ يُوصلَ تفريقُ الأمةِ، والتمكينُ لعدوِّها، بالتحالُفِ معهُ سرًّا على إِضعافِها، وتفويتُ مصالِحِها، وتمزيقُها، وتقسِيمُها مقاطَعاتٍ ودويلاتٍ، ونهبُ خيراتِها، مقابِلَ عَرَضٍ مِن الدنيا، ووعُودٍ بالنفوذِ والزعامَاتِ للمستعبَدين من نخبها وساساتها لأعدائهم، وإطماعهم بالأموالِ والترَؤُّسِ، وتولِّي مقاليدِ الأمورِ؛ ليكونَ ابنُ البلدِ في الواجهةِ هوَ الحاكِم، وفي الحقيقةِ عميلا خادمًا، يأتَمِرُ بأمرِ أعدائه، وينفّذُ مخطَّطَاتِهم، ذليلا مطيعا لمصالحهم، مُضيِّعًا لدينه ولأمانتِه وأمَّتِه، متآمِرًا عليها.
ولنقض خدام العدو وقطعهم لِمَا أمَرَ اللهُ بوصلِه وجوه أخرى كثيرة؛ منها تمادي كثير من النخب والسياسيين على الاجتهاداتِ الخاطئةِ مع وضوح فسادها وخرابها، حرصًا منهم علَى الكراسِي والجَاهِ والسّلْطان، أو حَميّةً وعصبيّةً؛ للحزبِ، أو الجهةِ والقبيلَةِ، على خِلافِ ما أمرَ الله تعالى بهِ من العدل والإنصاف والخضوع للحق وتقديم أهله وتمكين أصحاب الكفايات والخبرة وتقوى الله، يفعلون ذلك طاعة لعصبية سياسية أو قبلية بغيضة، دون مبالاة بتبعاتها المتوعّد عليها بخسران الدنيا والآخرة، كما جاء في آخر الآية.
ومنها فتاوى خدام السلاطين التي تُحرّمُ على الناس المشاركةَ في الانتخاباتِ لاختيار من يحكمهم، وذلك لدعم أركان حكمهم والتمكين لمزيد من القهر والاستبداد، فملأ بسبب هذه الفتاوى السلطانية العلمانيون وخصومُ أهل الحق هذه المجالسَ المنتخبةَ بمَن لا يُقيمونَ للشرعِ وزنًا ولا لأمر الله حكمًا، وتحكَّمُوا في رقابِ الخيرين، وبَقيت البلاد تحت رحمة الظالمين.
ومنها ضياع فقه الأولويات بين الناس، بعدم تنزيل التكاليف والأوامر الشرعية منازلها، وترتيبِها مراتبها، كما هو شائع من الحرصِ على النوافلِ والمستحبات، مع تضييعِ المقاصِدِ، وكلياتِ الشريعةِ، والفرائض وأمّهاتِ الدّين، فنرى مثلا اجتياح أراضي المسلمين ومقدساتهم، وتركَ الجهاد ومواجهة العدو المتمكن من رقابهم، وترك الإنفاق على القائمين به في مدافعة العدو في فلسطين، مع صرف الأغنياء الأموال الطائلة في المستحبات والمندوبات، كالتوسع في طبع المصاحف وبناء المساجد وكتكرير التطوع بالحج والعمرة المرة بعد المرة، والإنفاق على الجمعيات الخيرية ونحو ذلك، فاستبدال النوافل بالفرائض على هذا النحو هو من تقديم ما تحبه النفس وإن كان طاعة على ما هو أولى منه مما فرضه الله وارتضاه، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه) فالذي يعطي الأجر الكثير هو الله، وقد ذكر الموضع الذي يُعظِم فيه الأجر على غيره، وهو الإتيان بالفرائض، ومن طَلبه في المستحبات وضيع الفرائض فقد تبع ماتحبه نفسه، وتحكم على الله فيما رآه الأفضل، وأخطأ الطريق، وضل سواء السبيل.
ونشأ من نقض عهد الله على هذه الوجوه وغيرها، إضعاف الأمة وتفريقها، وإذهاب رِيحَها، والتمكين لعدوِّهَا، فقدموا له ما أراده منهم مجانا، فإلى الله المشتكى.
والفسادُ المتوعَّدُ عليهِ في الآيةِ بالخُسرانِ، عامّ في كلِّ فسادٍ؛ في الحكمِ، وفي الإدارةِ، وفي السياسةِ، وفي الاقتصادِ، وفي الأسرةِ، وفي الأخلاقِ، وفي الإعلامِ، وفي نهب الأموال، وسفك الدماء، وإخفاء الناس في السجون قهرا وعدوانا على خلاف العدل والشرائع، وغيرِ ذلكَ، وأفسدُ الفسادِ الشّركُ باللهِ تعالَى، فهو غايةُ الفسادِ، وليسَ بعده فسادٌ، والإشارة في قوله تعالى (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) للذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ولما بعده من الفساد في الأرض، والخُسرانُ أصله النقصُ والبخسُ في الميزانِ وفي غيرِه، ومعناه هنا الهلاكُ؛ لأنّ المتصف بما ذُكر في قطع ما أمر الله به أن يوصل خسِرَ وافتَقَدَ كلّ شيءٍ.
 
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
4 صفر 1445 هـ
الموافق 20-8-2023

التبويبات الأساسية